تلوث البحار وناقوس الخطر
م. رابعة حسن
ينظر الناس جميعهم إلى البحار والمحيطات نظرتي أمل وخوف في آن واحد أما نظرة الأمل فهي التي ترى في هذه البحار والمحيطات منقذا للبشرية حال تعرضها للمجاعة وكذلك لشح المياه إضافة إلى عدد هائل من الثروات المختلفة.
في حين تتبع نظرة الخوف من ذلك السجل الحافل بالأساطير والروايات عن أحداث وقعت في البحار والمحيطات كان الإنسان فيها عرضة لشتى الصعاب والأخطار إضافة إلى ماتبعثه الأمواج المتلاطمة العالية الارتفاع من شعور بالخوف والرعب لدى الإنسان.
وتغطي مياه البحار والمحيطات نحو 70 في المئة من سطح الكرة الأرضية (أي ما يشكل نحو ثلثي مساحتها) وتلعب دورا مهما في توازن المناخ والبيئة وتلبية الحاجات الغذائية للإنسان إلا أن الافراط في استغلال البحار والتلوث والحروب كل ذلك أخذ يهدد هذا الارث المشترك.
ولقد تنبهت الدول والمنظمات العالمية لما تجابهه البحار والمحيطات من أخطار كارثية في مقدمتها التلوث الشديد الناجم عن الأنشطة البشرية المختلفة وتحول هذا التنبه إلى دعوات ونداءات ومؤتمرات ولجان أخذت تدرس ما آلت إليه أوضاع البحار وتوصلت إلى تشريعات بيئية صارمة تفرض على جميع الدول وإجراءات حازمة للحد من مدى التدهور الذي وصلت إليه البحار.
وتتمثل المشكلة الحقيقية في تلوث البحار بأن البشر كانوا ينظرون إلى البحار والمحيطات باعتبارها معينا خصبا لا ينضب لأمور كثيرة أهمها الغذاء المتمثل في الأسماك والنباتات البحرية والمياه المالحة لاستغلالها في الشرب عن طريق عمليات التحلية وتلك الثروات الهائلة من نفط وغاز ومعادن الموجودة في قاعها.
ناقوس الخطر
لكن هذه النظرة أخذت تتغير مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين عندما أخذ العلماء والباحثون يقرعون ناقوس الخطر محذرين من التلوث الشديد الذي بدأ يأخذ أشكالا عديدة مع تطور العلوم والمعارف وانتشار الصناعات بشتى أنواعها وازدياد حركة السفن التجارية والسياحية والتوسع العمراني الهائل قرب السواحل ناهيك عن الجهل المحدق لدى كثير من الدول بآثار هذا التلوث على المدى الطويل.
وفي عام 1998 تشكلت لجنة عالمية لدراسة العوامل التي أخذت تهدد مياه البحار وانضم إلى هذه اللجنة التي عقدت اجتماعاتها في لشبونة البرتغالية كبار المسؤولين في الدول وبدأ خبراء هذه الدول يدرسون الإجراءات اللازم اتخاذها بغية تنظيم ثروات البحار وجعلها أكثر اتزانا وديمومة.
لقد كان العلماء أول من قرع ناقوس الإنذار عن الأخطار التي تهدد البيئة الطبيعية منبهين إلى أن الافراط في استغلا البحار أدى إلى اضعاف موارد الصيد وانقراض بعض الأسماك وأن كمية الأسماك المستخرجة من البحار تضاعفت أربع مرات خلال نصف قرن وبلغت ما مجموعة نحو 8 مليون طن سنويا وهذه الكميات لن تكون كافية لتلبية الحاجات الغذائية للكرة الأرضية مستقبلا وهذا النقص يثير التنافس بين الدول للوصول إلى مناطق صيد جديدة.
كما ان التلوث البيئي اضعف المناخات في المناطق الساحلية حيث يعيش ثلثا سكان العالم وعلى المستوى العالمي فإن زيادة انبعاث غازات الدفيئة (وفي مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون) يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع منسوب مياه البحار بحوالي نصف متر من الأن وحتى نهاية القرن المقبل مما يجعل الأراضي المنخفضة غير صالحة للسكن أو غير منتجة (وهو ما تشهد بعض أثاره الأن عدد من المدن الساحلية في هولندا وكذلك مدينة ميامي الأمريكية حيث ارتفع منسوب مياه البحر القريب منها مما أخذ يهدد سكانها والحياة فيها بشكل عام).
عجز متلاحق
إن المبادرة الأخيرة التي شهدتها البرتغال لم تكن الأولى من نوعها إذ أن الأمم المتحدة بادرت في عام 1982 إلى إصدار ما يسمى (معاهدة الأمم المتحدة لعام 1982 حول قانون البحار) والتي تعتبر فيها بصورة خاصة بأن البحار هي الارث المشترك بالنسبة إلى البشرية.
وقد دعا الأمم المتحدة إلى إصدار تلك المعاهدة ما لمسته الدول من تلوث كبيرة يصيب البحار والمحيطات دون وجود إطار يحدد المسؤوليات المترتبة على المتسبب بالتلوث ودون وجود إجراءات قانونية تستلزم فرض العقوبات الصارمة بحقه.
ولم تكن مشكلة تلوث البحار بعيدة عن مناقشات مؤتمر ريودي جانيرو الذي استضافته تلك المدينة البارزيلية عام 1992 حيث طرحت مشكلة تلوث البحار والمحيطات كبند أساسي في جدول أعمال المؤتمر المزدحم بالمشكلات البيئية وحثت توصيات المؤتمر على اتخاذ إجراءات عدة بهدف الحفاظ على البحار من أنواع التلوث كافة والحد من تدهور ذلك المعين الضروري للبشرية.
لكن الملاحظ أن هذه التوصيات والإجراءات لم تنفذ التنفيذ الضروري المأمول وبقى جزء كبير منها حبيس الإدارج والرفوف وتبين بشكل واضح عجز الدول والحكومات عن اتخاذ إجراءات رادعة للحفاظ على هذه الثروة المائية لا سيما في تلك الدول التي مازالت المشكلات البيئية تاخذ لديها أولوية متدنية وتضعها في أدنى درجة من سلم اهتماماتها.
تلوث من كل حدب وصوب
يأتي التلوث إلى البحار والمحيطات من مصادر شتى لكن أهمها ما تحمله الأنهار والمياه الجوفية إلى البحار من ملوثات الإنسان على اليابسة ومن الثابت أن التلوث الناجم عن الأنشطة البشرية ينتهي إلى مكانين اثنين هما المياه الجوفية ومياه البحار.
إن النفايات التي تخلفها البشرية وحضارتها المتطورة بإطراد تزداد باستمرار ضمن حجم ثابت هو البحار وبالتالي فإن نسبة التلوث ستزداد بشكل مخيف مالم تتخذ إجراءات حازمة لوقفها أو لحد منها.
ومن أهم ملوثات اليابسة التي تصب في النهاية بشكل غير مباشر في مياه البحار:
1. الملوثات الصناعية
شهدت السنوات الأخيرة من القرن العشرين ثورة صناعية هائلة بسبب تطور التكنولوجيا وتوجه العديد من الدول النامية لاعتماد الصناعة مصدرا أساسيا لنمائها وتطورها والعمليات الصناعية المختلفة ينتج عنها مخلفات كثيرة تصب معظمها في مياه الأنهار أو البحار ومن أهمها المواد الهيدروكربونية الناتجة عن المصافي والمصانع التي تتعامل بالمواد البترولية والكيميائية.
وعلى الرغم من حرص بعض المصانع على معالجة نفايات فإن كثيرا من هذه المصانع لا تأبه لهذه الجوانب وترمي بمخلفاتها المتنوعة لتصب أخيرا في مياه البحر.
2. الملوثات الحرارية
ومنها مياه التبريد في المصانع حيث تطرح في مجاري الأنهار حارة فتغير من طبيعة الوسط البيئي وقد تقتل بعض الأنواع من الكائنات الحية أو تربك الاستقلاب (الأيض) وتقلل كمية الأكسيجين المنحل في الماء.
3. الملوثات الكيميائية
وتندرج تحتها قائمة طويلة بأنواع شتى تزداد باطراد بسبب التطور الحاصر في علم الكيمياء وتأتي معظم هذه الملوثات من الاستعمال البشري (المنظفات بأنواعها) والاستعمال في المجال الزراعي (المبيدات والأسمدة) ويأتي قسم منها عن طريق الأمطار الحمضية التي تصب في النهاية في مياه البحار محملة بأنواع شتى من هذه الملوثات.
4. الملوثات الجرثومية:
تنتج هذه الظاهرة عن انصباب مياه الصرف الصحي في البحار ويشاهد ذلك بشكل واضح في التجماعات السكانية التي ترمي بمخلفاتها من هذه المياه في السواحل القريبة منها ويبدو أن هناك خطأ كبير ترسخ في أذهان الناس وهو أن البحر يأكل كل شيء وأن هذه المياه الناتجة عن الصرف الصحي ستذوب في هذا الخضم المتلاطم من الأمواج دون أن تسبب اي مشكلة صحية مع الزمن.
لكل هذا الجهل البيئي سيسبب كارثة كبيرة للبشرية إن لم يتم تداركها ذلك أن مياه الصرف الصحي مسؤولة بشكل مباشر عن نفوق عدد كبير من الأسماك إضافة إلى تهديد التنوع البيولوجي في أعماق البحار ناهيك عن عودة هذه المياه إلى جزء من السكان عن طريق تحلية المياه في الدول التي تشهد شحا في مصادر المياه.
ومشكلة مياه الصرف الصحي أنها لا تظهر خلال فترة قريبة إذ أن أثارها تظل مخبوءة فترة قريبة إذ أن أثارها تظل مخبوءة فترة طويلة في الأعماق ثم تبدأ بالظهور مسببة مشكلات بيئية تحتاج إلى مبالغ مادية كبيرة لمعالجتها أقل كثيرا مما لو تم معالجة هذه المياه على اليابسة فضلا عن عدم الوفيات الذي لا تقدر بثمن.
5. الملوثات النووية
وهي أخطر الملوثات وأشهدها فتكأ فهناك مصانع كثيرة (مفاعلات نووية وذرية ومحطات تحويل الطاقة) تبث مخلفاتها لتصل في النهاية إلى مياه البحار إضافة إلى التجارب النووية الكثيرة التي تجريها الدول النووية في عرض البحار والمحيطات لاستعراض اسلحتها الحديثة وتجربة قدراتها النووية.
إن هذه الملوثات ستنتقل مع الزمن إلى الإنسان بعد ان تكون قد تسببت بأخطار هائلة للكائنات البحرية وتدمير كبير لما تحويه الأعماق من بيئة زاخرة بالنباتات والحيوانات.
السفن والناقلات
تجوب البحار والمحيطات يوميا آلاف السفن والناقلات حاملة بضائع تجارية وآلاف الأطنان من النفط والغاز فضلا عن آلاف البشر الذين ينتقلون أو يسيحون من بلد إلى أخر.
وتسهم هذه السفن والناقلات في تلوث البحار بشكل مباشر عبر مخلفاتها ونفاياتها ووقودها وبات ذلك مشكلة عالمية تؤرق جميع الدول لاسيما تلك التي تتمتع بسواحل طويلة وتقع بالقرب من المسارات التقليدية لناقلات النفط العملاقة.
وتعتبر منطقة الخليج العربي إحدى المناطق التي تلاحظ فيها نسبة تلوث تكون كبيرة بسبب هذه الناقلات لكونها معبرا أساسيا لهذه الناقلات التي تحمل النفط والغاز من الدول الخليجية الغنية بهاتين المادتين إلى شتى دول العالم ولكون هذه المنطقة البحرية شبه مغلقة.
وقد شهدت بحار ومحيطات العالم حوادث مأسوية بسبب جنوح ناقلات النفط وتحطيم الكثير منها او تسرب كميات كبيرة من حمولتها ومازالت الكارثة التي سببتها الناقلة (اكسون فالديز) في أمريكا الشمالية قبل نحو عشر سنوات ماثلة للعيان شاهدة على مدى الأخطار التي تتسبب بها هذه الناقلات وثمة جهود كبرى تبذل للتخلص من آثار الناقلات وحمايتها من التحطم والجنوح وفرض ضرائب كبيرة على تلويثها للبحار والمحيطات.
إن العالم بأسره ينتظر ثمرة الجهود العالمية للحفاظ على ثروة البحار والمحيطات والحد من الأخطار الكارثية التي تلوث ذلك المصدر الطبيعي الذي يعتبر الأمل للبشرية لتوفي غذائها ولتأمين التوازن الحيوي الضروري لاستمرار وجود الحياة على هذه البسيطة.
المصدر : مجلة بيئتنا - الهيئة العامة للبيئة - العدد 21