نفاياتنا في الفضاء الخارجي تهدد مستقبلنا التقني
د. طلال العازمي
لم يشهد كوكب الأرض منذ بدء الخليقة، كائناً حياً قادراً على تدمير وتلويث بيئته التي يعيش فيها ويتغذي ويتنفس منها، مثل قدرة الإنسان على تدميره وتلويث كل ما يحط به، فتاريخ الإنسان مع التلوث تاريخ طويل ممتد عبر قرون عديدة، وإن كانت العقود الماضية قد شهدت تصاعداً ملحوظاً في وتيرته واتساعاً في مداه.
فالإنسان الذي نجح بقلة اكتراثه وقصر نظره في تلويث طعامه وشرابه، وفي تلويث الأرض التي يمشي عليها والهواء الذي يتنفسه، وحتى المدن والبيوت التي يعيش فيها، لم يكتف بذلك كله، بل نشط أيضاً في تلويث الكواكب الأخرى والفضاء الفاصل بين تلك الكواكب، مستخدماً أقدم وأشهر طرق التلويث وهي القمامة والمخلفات البشرية.
فالجنس البشري في سعيه لاستكشاف الفضاء المحيط بكوكبه خلال العقود الأخيرة، ترك وراءه حتى الآن عشرات الآلاف من قطع القمامة على أراضي الكواكب الأخرى، وفي الفضاء البعيد عن الأرض (Deep Space)، وفي الفضاء القريب من محيط الأرض. وكما كان للتلوث الناتج عن النشاط البشري على كوكب الأرض نتائج وخيمة على صحة ونوعية الحياة على هذا الكوكب، فإن نفايات الفضاء الخارجي وخصوصاً الموجودة منها في مدارات قريبة من الأرض، ستؤدي إلى نتائج وخيمة أيضاً على مستقبل التطور التكنولوجي للجنس البشري.
فوجود هذه النفايات في المدارات الفضائية القريبة، يضعها في مسار تصادمي مع الأقمار الصناعية التي تستخدم المدارات نفسها، ومن ثم احتمال تدميرها.
وأخذاً في الاعتبار أهمية المهام والوظائف التي تقوم بها الأقمار الاصطناعية حالياً وفي المستقبل، يمكننا القول أن جزءاً كبيراً من حضارة القرن الحادي والعشرين، سترتكز ارتكازاً أساسياً على الأقمار الاصطناعية.
وبسبب اتساع مهام الأقمار الاصطناعية وتنوع استخداماتها من المتعذر ذكرها كلها في موضع واحد، ولذا سنكتفي هنا ببعض الأمثلة.
ففي المجال العسكري مثلاً، أصبحت تلك الأقمار سلاحاً لا يمكن الاستغناء عنه على أرض المعركة، وهو ما كان جلياً وواضحاً خلال حرب الخليج الثانية، التي يحلو للبعض إطلاق لقب حرب الفضاء الأولى عليها، خلال الحرب قامت قوات التحالف وخصوصاً الولايات المتحدة، باستخدام الأقمار الاصطناعية بشكل مكثف لم يشهده تاريخ العمليات العسكرية من قبل، فقد استخدمت الأقمار الاصطناعية في رصد تحركات القوات العراقية وتحديد مواقعها بدقة شديدة، والتنصت والتشويش على اتصالاتها، وفي الوقت نفسه استخدمت الأقمار الاصطناعية في تسهيل الاتصالات بين قوات التحالف مع بعضها بعضاً وبين هذه القوات ومراكز القيادة والتحكم.
أما في مجال الاتصالات الشخصية، فقد أصبحت الأقمار الاصطناعية وسيلة رئيسية لتوصيل المكالمات الهاتفية بين الدول بعضها بعضاً، وفي مجال الترفيه أصبحت الأقمار الاصطناعية وسيلة لإيصال مئات القنوات التلفزيونية إلى المشاهدين حول العالم، وفي مجال الطب وجدت الأقمار الاصطناعية مكانها من خلال الطب الاتصالي والجراحة عن بعد والتعليم الطبي المستمر، وفي مجال البيئة وظفت عشرات الأقمار الاصطناعية لمراقبة المحيطات وطبقة الأوزون والرياح والأمطار والثلوج والفيضانات وحرائق الغابات، وغيرها الكثير من المؤشرات والمتغيرات البيئية.
تتنوع وتتعدد استخدامات الأقمار الاصطناعية بحيث يصبح من شبه المستحيل جمعها في مكان واحد، ويصبح من شبه المستحيل أيضاً تخيل الضرر الذي سيصيب طريقة الحياة الحالية للمجتمعات البشرية، إذا ما استمر تجمع النفايات الفضائية بمعدل تجمعها نفسه خلال العقود الأربعة الماضية. ولفهم مصدر وحجم هذه النفايات، يجب أن نسترجع تاريخ وحاضر استغلال الإنسان للفضاء الخارجي.
ففي الرابع من أكتوبر عام 1957 شهد العالم ولادة أول قمر اصطناعي هو سبوتنيك 9 (Spatnik 1)، وذلك حينما نجح السوفييت في وضع أول جسم من صنع البشر، خارج مجال الجاذبية الأرضية وفي مدار قريب من الأرض.
وكان نجاح السوفييت في تحقيق هذه الإنجاز العلمي شرارة الانطلاق لسباق فضائي محموم بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وضمن إطار الحرب الباردة الدائرة بينهما وقتها، وكان الهدف من هذا السباق هو السيطرة على الفضاء الخارجي وتوظيفه للاستخدامات العسكرية، بالإضافة إلى ما سيحققه هذا السبق من انتصار في حرب باردة كانت الداعية أحد أهم الأسلحة المستخدمة فيها.
لذا سارع السوفييت بعد نجاحهم في إطلاق قمرهم الاصطناعي الأول، إلى إرسال حيوانات إلى الفضاء الخارجي، كان أولها الكلبة لايكا (Laika) التي دارت حول الأرض عام 1957 على متن القمر الروسي (سبوتنيك 2) وبعد لايكا وصل الإنسان نفسه بشحمه ولحمه إلى الفضاء الخارجي، ممثلاً برائد الفضاء السوفييتي يوري جاجارين (Yuri Gagarin) الذي أصبح أول إنسان يخرج من مجال الجاذبية الأرضية في عام 1961. وبعد رحلة جاجارين هذه بعدة سنوات، وبالتحديد في العشرين من يوليو عام 1969 حقق الإنسان حلماً قديماً قدم التاريخ البشري، حينما حطت المركبة الفضائية الأمريكية أبوللو 11 (Apollo 11) على سطح القمر، وبداخلها ثلاثة رواد فضاء أمريكيين.
على ما يبدو فإن حالة القبح التي وجد الإنسان القمر عليها، والتي صدمت ملايين العشاق والشعراء حول العالم، جعلت الإنسان يفكر في العيش ما بين الأرض والقمر، ففي عام 1971 أطلق السوفييت بنجاح أول محطة فضائية هي ساليوت 1 ثم أتبعوها في عام 1986 بالمحطة الفضائية الأشهر مير، التي ظلت في مدارها الفضائي أكثر من خمسة عشر عاما، ورغم أن طاقم مير لم يستطع تحقيق الكثير في مجال البحوث العلمية وهو على متنها، إلا أنها سمحت للبشر بالبقاء خارج كوكبهم الأرض ولفترات طويلة، كان أطولها الفترة التي مكثها رائد فضاء سوفيتي وبلغت 437 يوماً متواصلة، ومع بلوغ مير مثواها الأخير في المحيط الهادي في الثاني والعشرين من مارس عام 2001، كان الإنسان قد قطع شوطاً في بناء بيته الجديد في الفضاء الخارجي، على شكل المحطة الفضائية الدولية (International Space Station) والتي بدأ العمل بها في عام 1998 ومن المتوقع أن يتعدى وزنها 460 طناً عندما يكتمل بناؤها، لتستقبل أول ضيوفها عام 2004.
وبوجه عام ومنذ ولادة سبوتنيك الأولى خلال الخمسة والأربعين عاماً الماضية، أطلق كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ومن بعدهما اليابان وأوروبا والصين والهند، الآلاف من الصواريخ الفضائية، حمل كل منها قمراً جديداً أو تليسكوباً أو مسباراً فضائياً، وفي مجال الأقمار الاصطناعية فقط تقدر الإحصائيات العلمية وجود أكثر من 2700 قمر عامل في وقتنا هذا.
وتكمن المشكلة في أن الصواريخ التي تستخدم لحمل القمر الاصطناعي إلى خارج الجاذبية الأرضية، تأخذ لنفسها مجالا مدارياً مقاربا للمجال الذي تتخذه الأقمار الاصطناعية، بالإضافة إلى أن الأقمار نفسها تصبح خارج الخدمة بعد انقضاء فترة صلاحيتها، الصواريخ والأقمار والأجزاء الأخرى من المركبات الفضائية الموجودة في المدارس نفسه، تبدأ بالتصادم مع بعضها البعض وتتحطم إلى أجزاء أصغر، تدور حول الأرض بسرعة تصل إلى ستة كيلو مترات في الثانية، مرة أخرى وتتحطم إلى أجزاء أصغر مكونة سحباً من النفايات ذات سرعة هائلة، ومنذ أن بدأت الدراسات والإحصاءات عن هذه النفايات الطائرة، تمكن الباحثون من رصد ما يزيد على 9 آلاف جسم من صنع الإنسان في مدارات حول الأرض، مع التنبؤ بوجود 100 ألتف جسم آخر حول الأرض، لا يمكن رصدها بسبب صغر حجمها.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن هذه الأعداد الضخمة من بقايا الأقمار والصواريخ الفضائية القديمة، تطير بهذه السرعات المهولة بين الأقمار التي أصبحنا كمجتمع بشري نعتمد عليها اعتماداً يومياً، لإدراكنا مدى الضرر والخطر اللذين تشكلهما هذه النفايات على مستقبل الجنس البشري كما نعرفه.
المصدر : مجلة بيئتنا - الهيئة العامة للبيئة - العدد 44