بيئتنا بيئتنا البوابة البيئية الرسمية لدولة الكويت

التلوث الضوئي

التلوث الضوئي

التلوث الضوئي وحماية البيئة الصناعية

د. م. علي مهران هاشم

منذ قديم الزمان وينتظر الإنسان طلوع الشمس وما تجلبه معها من ألفه وحياة، ومع مرور الأيام بدأت عيون البشر تتطلع إلى ظلام الليل في شوق إلى نور القمر ورؤية النجوم.

إن عالم البشرية يتكون من الأرض التي يحيا عليها والسماء التي تظلها والشمس التي تشرق كل يوم وتغرب في نهايته مفسحة المجال لنور القمر وسطوع النجوم، ومع تطور العلوم والاتصالات والمواصلات ورحلات الفضاء بدأ الإنسان ترتبط ويربط بين الظواهر التي تحدث بطريقة متكررة فبدأ يستخدم تكرار الظواهر وقياس ما يعرف بالزمن، وبدأ تقسيم الوقت إلى فترات متساوية وسميت مجموعة النجوم أبراجاً ويحد شروق الشمس في كل برج بداية شهر جديد ومع توالي الإيقاع الثابت لظواهر الكون بدأ الإنسان يعرف السنة والشهر واليوم.

على أية حال، فإن تقدم ورفاهية الشعوب والأمم يرتبط بمدى التقدم التقني ومستوى التنمية فيها، ومع التسابق لتحقيق التنمية السريعة تنتشر الأضواء وتنحسر أمامها حدود السكينة والظلام وبدأ يختفي تدريجياً منظر الليل النقي الصافي نتيجة لهذه الأضواء المبعثرة في كل مكان وفي كل الاتجاهات وحمل إبهارها القلق للإنسان وبرز سؤال فطري لدى المتخصصين في مجال البيئة والفلك والهندسة والعامة أيضاً أين يذهب الليل؟ وهل تهرب الطبيعة؟

في البلدان الإسلامية يعاني رجال الدين من صعوبة رؤية ذلك الخيط الفضي الرفيع الذي هو هلال شهر رمضان المعظم بسبب التوهج المنبعث إلى الأجواء من الأرض.

إن التلوث الضوئي الذي يشاهد بوضوح من الفضاء يقضي على الإشارات الضعيفة الآتية من أعماق الكون، كما يشكل خسارة وهدر للوقود والطاقة ويحذر العلماء من أن تتخذ سماء المدن لوناً برتقالياً في الليل بسبب هذه النفايات الضوئية، إن هذه الملوثات الضوئية ذات آثار سلبية على علماء الفلك والبيئة بصفة خاصة من حيث متابعة ومشاهدة التغيرات الكونية.

إن مصادر الضوء الذي يلوث السماء ويعكر الصفاء الطبيعي كثيرة نذكر منها المراكزي والمحلات التجارية الكبرى والصغرى التي تطلق أنوارها المشعة والدعائية بصور عشوائية، وكذلك مجموعة المصابح التي تنير الطرق والميادين وتتجه أضواؤها إلى أعلى وفي جميع الاتجاهات والملاعب والمهرجانات والاحتفالات والأفراح وغيرها والاحتفالات والأفراد وغيرها من مظاهر الترف والعبث بالطبيعة.

إن الوهج الضوئي لمدينة ريتشموند الأمريكية يؤثر على دقة الأبحاث العلمية لعالم الفلك فيل أيانا في جامعة فيرجينيا حيث يستطيع أن يرى الوهج العبثي للإنسان بعينه المجردة من مرصده الجبلي الذي يبعد عن المدينة 112 كيلو متراً.

ويذكر العالم الياباني سيوزو أيزوب أن التلوث الضوئي يحدث أضراراً بالأسماك والطيور والمحاصيل، وخاصة الأرز الغذائي الرئيسي لليابانيين.

وكما لقت علماء البيئة والطبيعة من قبل نظر الناس ومتخذي القرار إلى خطورة ثقب الأوزون والتي كثرت بعدها الدراسات والأبحاث والاتفاقيات لحماية كوكب الأرض من التدهور، فإن العلماء اليوم مدعوون للبحث والتنقيب لتحديد الآثار السلبية للنفايات الضوئية وتقنين التلوث الضوئي في المدن الحضرية وغيرها من أماكن العمران، ونحذر هنا من أن القضية إذا لم تؤخذ بجدية واهتمام من الجميع فإننا سنصبح في المستقبل عاجزين عن رؤية النجوم، وستتدهور البيئة الضوئية الطبيعية، وستتأثر علوم الفلك والطبيعة والبيئة ناهيك عن ازدياد الهدر في الطاقة الكهربائية والوقود الأحفوري، وبالتالي تلويث المحيط الحيوي بملوثات أخرى عديدة.

لقد بات من الضروري تقنين استخدام الإضاءة الاصطناعية وتحديد معايير علمية وفنية وتخطيطية دقيقة لاستخدامها، وكذلك إيجاد بدائل جديدة وحديثة للإضاءة تجسد شعار "سماء في متناول الجميع أثناء الليل"، إن الدعوة إلى الحد من التلوث الضوئي في المدن والريف لا تعني العودة إلى الظلمات التي سبقت تعميم الإضاءة الكهربائية، فتوفير الإضاءة من ضروريات التنمية لكي تكون تنمية مستقرة ومتواصلة فلابد من عدم الإسراف وترشيد الاستهلاك وتقنين استخدام الطاقة والإضاءة والتوعية بخطورة الإضاءة الصناعية المتزايدة والمنتشرة في كل الاتجاهات بدون تخطيط أو تنظيم ناهيك عن عدم تجانسها وعشوائيتها سواء في الحجم أو اللون أو الشكل أو المكان الموجودة فيه، وعلنا أن نأخذ بعين الاعتبار تجارب الدول التي سبقتنا دون تعالي أو خيلاء.

لقد كنت الشهر الماضي في زيارة علمية لأحد المدن الأوروبية، وتلبية لدعوة أحد علماء الهندسة البيئية الأوروبية، فقد قمت معه بزيارة لأحد البحيرات الطبيعية بعد غروب الشمس والطريق الموصل إلى البحيرة طريق دائري ومحاط بغابة طبيعية للأشجار والنباتات والحيوانات البرية والطريقة على حدود البحيرة والرحلة تبدو شائقة في بدايتها وعندما تتوغل داخل هذه الغابة يطلق الفكر عنانه، حيث لا إضاءة اصطناعية بالمرة، فقط أنوار خافتة من السيارات على الطريق الدائري وترى مياه البحيرة ساكنة نقية ساطعة من ضوء القمر والجو شاعري ومبدع والحوار مفيد في هذه الأجواء والأفكار مرتبة والعقل هادئ وصافي واصوات العصافير كسيمفونيات موسيقية رائعة، وسألت لماذا لا توجد أية إضاءة صناعية ولو على الطريق؟

فكان الرد أننا نريد الطبيعة كما هي لا رتوش، لا مكياج، لا تزييف للمكان بدعاوي التحديث والتجميل، وحدود البحيرة وأسماكها وطيورها وحيواناتها طبيعية والإنسان في هذه الأجواء يخلو إلى نفسه ويستمتع بروحه وريحانه ووجدانه، وتسمو النفس ويرتفع الحس وهي الأجواء صحيحة للكبار والصغار لإنشاء أجيال قادرة على الإبداع وتحقيق التفوق في أي مجال (علمي – رياضي- ثقافي.. الخ).

إن التنمية وجمال الطبيعة المنشود يقتضي التخفيف من التلوث الضوئي دون الإخلال بضرورات الإضاءة التي تضمن توفير الأمن العام ومستوى حضاري مناسب ويقع عبء ذلك على الباحثين والمتخصصين لتحقيق هذه المعادلة ثم يأتي دور الجهات المسئولة في سن التشريعات واللوائح المنظمة لعمليات الإضاءة ونوعها وقوتها واتجاهاتها وتحديد أماكن تواجدها وأماكن توهجها وخفوتها وهكذا.

إن وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية لها دور رئيسي في توعية الناس عن طريق إفساح المجال للمتخصصين والعلماء لتبسيط المعارف والعلوم من أجل رفع الحس الفني والجمالي لدى الناس حتى يدرك الجميع أن الطبيعية ملك لهم والمحافظة على مواردها هو من الثروات المخزونة للأجيال القادمة حتى يحيا المجتمع حياة هادئة ناعمة راضية مرضية في الشكل والمضمون.

والسؤال القائم هل نور الطبيعة على الأرض صار مهدداً؟ وما هي الوسائل والتقنيات اللازمة لحماية كوكب الأرض من هذه الملوثات الضوئية الحديثة؟

في دراسة لجمعية حماية السماء الليلية التابعة للهيئة الوطنية الفرنسية عام 1994م وجد أن الأضواء الاصطناعية القوية لها تأثيرات سلبية على الوظائف الفيزيولوجية للنباتات كما تؤثر على نظام توجيه الطيور المهاجرة حيث تؤدي إلى تحريف وجهتها الطبيعية وكذلك على حركات الطيور والحشرات وتعدي ذلك إلى الإنسان، ففي بريطانيا تزايدت الشكاوي من المواطنين بنسبة 44% منذ عام 1993م من الإضاءة القوية، وقد ذكر غراهم جوكي مدير المصالح المهنية في معهد الصحة البيئية البريطاني أن الانعكاسات الصحية للتلوث الضوئي تتسبب في تدنى نوعية الحياة العامة لدى الأفراد وتزيد من الاضطرابات النفسية والعصبية والتوتر والقلق العام وينعكس ذلك بالطبع على العمل والتفكير والإبداع.

و قد أسس في بلجيكا جمعية باسم "المضايقة الضوئية" ومن أهدافها محاربة جوانب التلوث الضوئي كافية، وقد نظمت في عام 1996م مسيرة تحت شعار "ليلة مظلمة في سهل الفلاندر" وهي دعوة لتوفير الهدوء والصفاء الطبيعي وقد كررت هذه الدعوات لتشمل هولندا واللوكسمبورج ودول أوروبية أخرى.

إن الربط بين الأسباب والمسببات والظواهر والنتائج أحد مقومات الأبحاث الدقيقة، لذلك فإن الحفاظ على الطبيعية وصفاتها البكر يمثل ضرورة حيوية لراحة الإنسان وتحقيق مستوى معيشي وحضاري أفضل سواء في الحاضر أو المستقبل.

إن حب الطبيعية والحنين إلى نورها فطري لدى الإنسان منذ إن وجد وكان الأطفال والشعراء والأدباء والمفكرون يحملون بتلك العوالم الأخرى التي تختفي وراء الأضواء المنبعثة من السماء وساهم ذلك في اتساع مساحة الإبداع والخيال العلمي والتصور المستقبلي وقلت الخشونة والغلظة وتسامح الناس، فهل استخدام الكشافات المغلقة إلا من أسفل بحيث تتركز طاقة الإنارة المنبثقة منها إلى منطقة محددة بعينها صعب المنال أو التنفيذ؟

وخلاصة القول أن الأمر ليس بالعسير ولا يمثل الوصول إليه معجزة بل إنها فقط منظومة حية متناغمة العناصر أركانها الإدارة الواعية غير المكلفة أو المتكلفة والباحثون المخلصون لعملهم ووطنهم والجهاز المسئول على تنفيذ هذه المدخلات والمخرجات بجدية والتزام وعدل مع ضرورة إخلاص النيات من الجميع؟!!

والعمل بروح الفريق.

المصدر : مجلة بيئتنا - الهيئة العامة للبيئة - العدد 49