يستخدم في أسطح التحكم بالطائرات والسفن
اليورانيوم المستنفد .. خطر يتفاقم
د. محمد رشاد السبع
في الوقت الذي تتزايد فيه حوادث الطيران في شرق العالم وغربه تجدر الالتفاتة إلى كوارث اليورانيوم المستنفد لدى احتراقه ومخاطره الكبيرة بحق الإنسانية، خاصة وأنه يمثل جزءاً لابد منه في صناعة الطائرة.
إن تفشي حالات مرضية بين الذين تعرضوا له يفتح الطريق واسعاً أمام إعادة النظر في حقيقة المخاطر الصحية لليورانيوم المستنفد، ويفتح أيضاً ملف استخدامات هذا المعدن المشع في المجالات الحربية والمدنية، مثل الطيران المدني، خشية أن تتحول حادثة طيران إلى كارثة صحية للناجين ولسكان مناطق الحوادث بسبب استخدام اليورانيوم المستنفد في اسطح التحكم في الطائرات.
وينتج اليورانيوم المستنفد من عملية تحويل اليورانيوم الطبيعي لاستخدامه كوقود ذري أو في انتاج الاسلحة الذرية، ويعتبر أقل اشعاعاً من اليورانيوم الطبيعي بنسبة 40 في المئة واليورانيوم المستخدم في مضاعفة قوة اختراق الذخائر الحربية لأهدافها، يستخدم أيضاً على نطاق واسع في الصناعة المدنية، وبشكل رئيسي في أسطح التحكم في الطائرات والسفن نظراً لثقله الكبير مقارنة بالمعادن الأخرى ولتقوية فعالية الجنيحات المتصلة بجناحي الطائرة واسطح التحكم في الذيل، يتم وضع اثقال موازنة، والمعدن المثالي في هذا المجال هو التنجستون، لكن يتم استخدام اليورانيوم المستنفد حيث تقترب خواصه وكثافته من التنجستون وأشار تقرير للجنة الأميركية للتنظيم النووي في ديسمبر 1999 إلى وجود نحو 430 طائرة عاملة على الخطوط الجوية تستخدم اليورانيوم المستنفد في أسطح التحكم.
وتتصف المعادن الثقيلة «مثل اليورانيوم، الرصاص، والتنجستون» بالسمية الكيماوية التي قد تسبب، في حالة ارتفاع الجرعات، تسمماً ومشاكل صحية.
وتتضمن المشاكل الصحية لليورانيوم المستنفد مخاطره الاشعاعية حيث يشع جزيئات ألفا وبيتا وأشعة جاما، ويتعرض الجلد لتأثيرات جزيئات ألفا، وتحجز الملابس العسكرية تأثيرات جزيئات بيتا، لكن أشعة جاما طاقة خالصة يمكنها الاختراق.
ويتم استخدام اليورانيوم المستنفد ككتلة موازنة في اسطح التحكم في عدد كبير من طرازات الطائرات، من دوجلاس دي. سي 10 وكي. سي 10 إلى البوينج 747، لوكهيد إل 1011، سي 141، سي 130، وسي 5 إيه. ويستخدم أيضاً في أوزان ريش محركات الطائرات المروحية، وهذا شيء طبيعي جداً نظراً للكثافة العالية لليورانيوم «متر مكعب واحد من اليورانيوم يزن 19 طناً»، أي نحو 1.7 مرة تقريباً ضعف الرصاص وكانت هذه الخاصية كافية لاستخدامه من بداية الستينيات في كتل الموازنة للأجزاء المتحركة في ذيل وجناحي الطائرة، في أسطح التحكم، خاصة في أجهزة القيادة والجنيحات ورغم صغر حجم اسطح التحكم والجنيحات تعتبر مهمة في الطيران وتحتاج إلى أوزان لزيادة فاعليتها وتتراوح أوزان هذه القطع في البوينج 747 بين مئات الكيلوجرامات وأكثر من 79 كيلوجراما.
إن كتلة من اليورانيوم المستنفد تعتبر خطيرة في حد ذاتها، لكن تحولها إلى غبار، في حالات حوادث الطائرات، يجعلها قابلة للاستنشاق والدخول إلى المعدة، لتصبح مادة اشعاعية سامة تسبب الاصابة بالسرطان وسماً كيماوياً ضاراً للكلى وعند استنشاق جزيئات هذه المادة تتسرب إلى الرئتين وتنتقل إلى الدم وتسمم كل أعضاء الجسم، خاصة العظم وعند دخول هذه المادة إلى المعدة، يتم افرازها في البول بكميات كبيرة، لكنها قد تعبر حاجز الجهاز الهضمي المعوي ومع تماس اليورانيوم مع الخلايا يجعلها مشعة ويدمر بشكل خاص جزيء المادة الوراثية.
ويقول عالم البيولوجيا البلجيكي بيير بيرارت من جامعة مونس هينو إن بعض الخلايا تموت في هذه الحالة ويستطيع بعضها إعادة إصلاح المادة الوراثية لكن البعض الآخر يتحلل إلى خلايا مسببة للسرطان.
ومع احتراق اليورانيوم المستنفد في حوادث الطائرات عند درجات حرارة مرتفعة، يتأكسد اليورانيوم ويظل معلقاً في الهواء في منطقة الحادث أو تنقله الريح وتحركات المركبات، أي يصبح قابلاً للاستنشاق.
وعند اصطدام طائرة بالأرض في حادث لا تكفي هذه الصدمة لاشتعال معدن اليورانيوم، لكن توابع الحادث مثال اشتعال خزان الوقود، تكون كافية لأكسدة اليورانيوم، وتكون عملية الأكسدة سريعة أو بطيئة تبعاً للحرارة الناجمة عن الحادث وتبعاً لكمية الأوكسجين التي تغذي الحريق «وتتناسب هذه الكمية مع قوة الريح».
ولا تقتصر القائمة السوداء لليورانيوم المستنفد على اتهامه بأنه كان وراء أمراض غامضة نجمت عن حرب الخليج وحرب البلقان وتهدد الفلسطينيين بسبب استخدام اسرائيل قذائف اليورانيوم المستنفد، بل تشمل أيضاً الشكوك الصحية التي أحاطت بعدد من حوادث الطيران المدني بدأت عام 1983 بحادثة لطائرة تابعة لشركة دوجلاس أدت إلى مقتل شخصين وجرح آخرين بجروح شديدة.
وتشير اختبارات البحرية الأميركية ووكالة أبحاث الفضاء الأميركية إلى أن درجة الحرارة الناجمة عن حوادث الطائرات قد تتخطى 1100 درجة مئوية، أي أعلى بكثير من درجة 500 التي يبدأ عندها اليورانيوم المستنفد في الاشتعال البطئ على هيئة دخان، مما يؤدي إلى تعرض الركاب وطاقم الطائرة الناجين والسكان في منطقة الحادث إلى التلوث الإشعاعي عند تنفسهم أدخنة أوكسيد اليورانيوم.
وظهرت مخاطر اليورانيوم المستنفد في مجال الطيران المدني بعد حادثتين الأولى لطائرة بوينج 747 لشركة العال في 1992 في امستردام والثانية لشركة الطيران الكورية في 1999 بالقرب من لندن.
وفي الحادثتين كان وجود اليورانيوم المستنفد مؤكداً، وطالت النيران مئات الكيلوجرامات من هذا المعدن.
وكانت الطائرة البوينج قد تحطمت في الرابع من اكتوبر 1992 قبل الهبوط مباشرة فوق عمارة في أحد أحياء ضواحي امستردام، ونتج عن الحادث وفاة 74 شخصاً أغلبهم من سكان العمارة.
وتضافرت أكاذيب السلطات المحلية، بعد الحادث بأن اليورانيوم المستنفد ظل على هيئته المعدنية ولم يحترق، مع إخفاء شركة الطيران معلومات حول ما كانت تحمله الطائرة "190 لتراً غاز السارين السام»، مع عدم توافر تعاون بين عدد من الأطراف المرتبطة بالطائرة وحمولتها، فضاعت حقيقة دور اليورانيوم المستنفد في الإصابات المرضية التي ظهرت بعد ذلك في مكان الحادث وأصيب عدة آلاف من سكان المنطقة ورجال الإنقاذ بأمراض مزمنة" غثيان، أوجاع في الرأس، اضطرابات في النوم، وأمراض عصبية مختلفة» وظل الدور الذي لعبه اليورانيوم المستنفد وغاز السارين غامضاً، حتى كشفه تقرير صادر عام 1999 أشار إلى أن النيران التي شبت في الطائرة والعمارة السكنية أطلقت مزيجاً من النواتج الكيماوية، وأن اليورانيوم المستنفد وجد نشطاً في الهواء ووجد التقرير علاقة مباشرة بين شكاوى المصابين وكارثة الطائرة.
ولم تكن أخطار اليورانيوم المستنفد مجهولة قبل حادث امستردام بأربع سنوات، حيث نشرت مقالة بعنوان «مخاوف الطيران» لعالم الفيزياء الأميركي روبرت باركير، تحذر من استخدام اليورانيوم المستنفد في أثقال الموازنة في الطائرات المدنية.
وتبعاً لتقديرات اللجنة الأميركية للتنظيم النووي في 1999، وصلت كتلة اليورانيوم المستنفد في الطائرة بوينج 747 إلى 850 كيلوجراما، وكانت هذه الكتلة تتراوح على نفس طراز الطائرة المبتكرة بين 324 و 376 كيلوجراما، وأحياناً 499 كيلوجراماً لبعض الأجهزة الخاصة.
وأوضح متحدث باسم شركة بوينج، إثر حادث تحطم طائرة بوينج 747 الكورية بالقرب من لندن في 22 ديسمبر 1999، وكان ضمن تجهيزاتها 300 كيلوجرام من اليورانيوم المستنفد أن أثقال الموازنة من اليورانيوم المستنفد، التي بدأ استخدامها في أوائل الستينيات تم التخلي عنها أوائل الثمانينيات واستخدم بديل لها معدن التنجستون غير المشع الذي يتصف بكثافة مقاربة لليورانيوم.
وكان لليورانيوم المستنفد خلال الستينيات والسبعينيات ميزة إذا قورن بالتنجستون، فهذا اليورانيوم لا يساوي شيئاً تقريباً حيث إنه مجرد نفاية، وفي المقابل يعتبر التنجستون معدنا نادراً مرتفع السعر " 150 دولاراً للكيلوجرام في 1980 "، وكان الاتجاه العالمي تابعاً للصين في هذا المجال «أكثر من 60 في المئة من الانتاج العالمي للتنجستون» والاتحاد السوفييتي سابقاً لذلك يمكن فهم سبب تفضيل الصناعة الأميركية المدنية والعسكرية لليورانيوم المستنفد، لكن الصين انفتحت على السوق العالمي مع بداية الثمانينيات، وعرضت روسيا للبيع مخزونها الاستراتيجي.
وبين عامي 1968 و 1981 أنتجت بوينج 551 طائرة بي 747 مجهزة بأثقال موازنة من اليورانيوم المستنفد، حسب أرقام اللجنة الأميركية للتنظيم النووي، وبعد حادث أمستردام في 1992. أكدت الشركة الأميركية أنها حلت التنجستون بالتدريج محل اليورانيوم المستنفد في أولى طرازات 747، مما يفسر احتواء الطرازات الحالية على كميات أقل من اليورانيوم المستنفد مقارنة بالطرازات السابقة.
282 كيلوجراماً في طائرة شحن شركة العال و 300 كيلوجرام في الطائرة الكورية، ولايزال عدد كبير من الطائران المدنية، التي تستخدم اليورانيوم المستنفد، في الخدمة ومنها حسب نفس اللجنة الأميركية في ديسمبر 1999، 168 مكدونيل دوجلاس دي سي 10، 60 لوكهيد إل 1011، و 202 بوينج 747.
يوضح هينك فان دير كير أحد مسؤولي جمعية «لاكا» الهولندية التي كشفت وجود اليورانيوم المستنفد في حادث طائرة امستردام، سوء اجراءات الوقاية من مخاطر حوادث الطائرات المجهزة بهذا اليورانيوم، قائلاً «لم تكن فرق مواجهة الحرائق مستعدة لمواجهة مثل هذه الحوادث بتدابير محكمة، ولم تتوافر كمامات الوقاية من الغاز، ولم يجد أحد قفازات مناسبة للوقاية» وحدث ذلك رغم أن هذه المخاطر كانت معروفة منذ وقت بعيد، حيث يشير تقرير أميركي في 1984 إلى خطر التعامل مع اليورانيوم المستنفد باليد بعد الحوادث، وينصح بتجنب اللمس المباشر للتجهيزات التي يدخل هذا اليورانيوم في تصميمها، وتجنب استنشاق أو بلع جزيئاته.
وقال البروفيسور مالكوم هوبير عالم الكيمياء الجزيئية الشهير في جامعة سندرلاند، بعد حادث تحطم طائرة الخطوط الكورية «إذا لم يتم أخذ اجراءات الوقاية في الحسبان قبل الحادث، فقد يتعرض الكثيرون لمخاطر قاتلة، وتجنب حماية المتعاملين مع منتجات الحادث بشكل خاص».
ولا توجد مخاطر مباشرة من استخدام اليورانيوم المستنفد في اسطح التحكم في الطائرات المدنية، لكن الخطر مؤكد في الحوادث التي تشهد تحطم الطائرات واشتعال النيران فيها.
وللإحاطة بمدى انتشار هذه المخاطر التي تهدد حركة الطيران العالمية الراهنة، توضح الأرقام أن 40 في المئة من 1257 طائرة بوينج 747 أنتجتها الشركة تحمل اليورانيوم المستنفد، ويتعلق الأمر بتجهيزات يورانيوم بلغ عددها 551 تجهيزة خرجت من خطوط الانتاج بين عامي 1970 و 1981 وتشير لائحة حوادث طائرات بي 747 غير القابلة للإصلاح، إلى وقوع نحو 36 حادثاً من هذا النوع بين عامي 1970، 2000 منها طائرة الخطوط الكورية في 1999 والعال في 1992، حيث اندلعت النيران وانتجت اكسيد اليورانيوم السام، وتوجد ضمن القائمة أيضاً حادثة طائرة للخطوط الفرنسية تحطمت في 5 مارس 1999 في مدراس الهندية ودمرتها النيران تماماً ولم تلتفت وسائل الإعلام لمشاكل احتراق اسطح التحكم المجهزة باليورانيوم المستنفد، وطائرة للخطوط الكاميرونية في 5 نوفمبر 2000 في باريس، وأخرى للخطوط السنغافورية في 31 أكتوبر 2000 في تايبيه في تايوان، وطائرة للخطوط الكورية في 22 ديسمبر 1999 في جريت هالينجبرج في انجلترا، وأخرى للخطوط السعودية في حادث 12 نوفمبر 1996 في الشارقة، وطائرة لوفتهانزا في 20 نوفمبر 1974 في نيروبي.
ويمكن رصد قائمة مماثلة لطائرات إل 1011، سي. دي 10، هيركولويس سي. 130، وطائرات مدنية أخرى.
المصدر : مجلة بيئتنا - الهيئة العامة للبيئة - العدد 66