أمواجها الكهرومغناطيسية تنتشر في محيطنا وتتغلغل في أجسادنا
حتى الكهرباء تلوث البيئة وقد تسبب السرطان
د. حازم صابوني
فهل أعلنت المجتمعات المدنية المعاصرة حرباً شائنة على نفسها وعلى بيئتها، هذا السؤال المحير والسوداوي النزعة طرحه منذ أكثر من قرنين قلة من الحكماء وعلما المجتمعات الإنسانية وأصحاب المذاهب الأخلاقية ووصولاً إلى الجماعات الخضر من دعاة الحفاظ على الطبيعة والحياة بل وذهب بعضهم إلى استقرار مستقبل تهيمن فيه التقائه على الأرض والطبيعة والإنسان وتتحكم حتى في مبتدعيها.
كوكب عدواني
إن نظرة سريعة إلى الوراء عبر السلم الزمني السحيق، ستوضح لنا كم كان كوكبنا عدوانيا قبل ما يزيد على أربعة بلايين ونصف البليون من السنين، بحيث تعذر قيام الحياة عليه، وقد قدر أن تمضي مئات الملايين من السنين قبل أن يصبح موئلاً صالحاً للكائنات الحية وتصبح بيئته مضيافة للجنس البشري، تعج فيها بكل أشكال الحياة في محيط مسالم إلى حد كبير.
ومع بدء تشكيل المجتمعات البشرية، وتكون الحضارات، أخذ الإنسان يؤثر في بيئته المحيطة ويسخرها شيئاً فشيئاً لأغراضه ومنافعه الخاصة، ومع ذلك ظل يعتبر نفسه جزءاً مكملاً للطبيعة وامتداد لها، وهذا ما يتجلى في تلك العلاقة الحميمة بين الإنسان والأرض والطبيعة لدى المجتمعات الزراعية الأولى، فقد بقى هذا التكامل والانسجام قائماً إلى أواخر القرن الثامن عشر وبداية الثورة الصناعية الأولى عندما تحولت نظرات الإنسان إلى الطبيعة من علاقة نفعية تبادلية إلى علاقة سيطرة وتحكم لا ترى فيها الطبيعة إلا كجماد لا حياة فيه ولا ضير في استنزافه إلى الحد الأقصى، وهكذا تسخير العلوم والتقائه للطبيعة يبتعد تدريجياً عن المظاهر الأخلاقية والصفات الإنسانية والفطرية الأصلية.
ومع ذهولنا المقترن بكثير من الإعجاب والإكبار، بالإنجازت الخارقة التي حققتها وتحققها التقائات الكهربائية والمعلوماتية ووسائل الاتصالات لحاضر ومستقبل البشرية يتساءل البعض فيما إذا كانت هذه التقائات ستقودنا إلى مزيد من الاغتراب عن محيطنا وإلى تمزيق أكبر للتوازن البيئي.
هذا التوازن قد وفره كوكبنا عبر ملايين السنين وقد تنسفه ثوراتنا التقانية المتعاقبة في قرون عدة.
تتعرض الكائنات الحية على الأرض بشكل دائم إلى حقول كهربائية ومغناطيسية وإلى إشعاعات كهرومغناطيسية طبيعية إذ ينتشر حقل كهربائي ساكن ما بين الغلاف الجوي الأيوني المحيط وسطح الأرض تبلغ شدته الوسيطة عند منسوب سطح البحر ما يقارب 100 فولت/ المتر وتزداد هذه القيمة بشكل معتبر عند حدوث العواصف الرعدية كما ينتشر على سطح الأرض وفي محيطها حقل مغناطيسي ساكن شدته الوسطية على منسوب سطح البحر 50 ميكروتيسلا، وتقال كثافة التدفق للحقل المغناطيسي تبعاً للمعايير الدولية، بوحدة التيسبلا Tesla (T) ولا يزال البعض يستخدم وحددة الغاوس القديمة، وعموماً فإن IG. T= 10T، وتؤدي النشاطات والرياح الشمسية والاضطرابات الكونية إلى تغيرات وتأرجح لشدة الحقل المغناطيسي الأرضي، وإضافة إلى هذه الحقول الطبيعية تتعرض الأرض إلى إشعاعات شمسية وكونية بعضها ذات طاقات عالمية تؤدي إلى تشرد (تأين) الهواء. إلا أن معظم هذه الإشعاعات يتم امتصاصها في طبقات الجو العليا، وتحتوي بعض المكامن الجيولوجية على خامات مشعة تؤدي بدورها إلى تأين الهواء، إلا أن معظم هذه الإشعاعات يتم امتصاصها في طبقات الجو العليا، وتحتوي بعض المكامن الجيولوجية على خامات مشعة تؤدي بدورها إلى تأين الهواء، إن استمرار الحياة على الأرض منذ ملايين السنين يؤكد لنا أن مجمل التأثيرات السلبية للحقول الساكنة وللإشعاعات الطبيعية المؤينة ضعيف نسبياً وأمكن للكائنات الحية التأقلم معه بشكل أو بآخر.
عصر الكهرباء
ومع اكتشاف الكهرباء ودخول تطبيقاتها العملية في دقائق حياتنا اليومية، بدأت الحقول والأمواج الكهرومغناطيسية "الصنعية" تغزو فضاءتا المحيط وتتضعاف آلاف المرات، لقد استثمرت الصناعات كامل الطيف الكهرومغناطيسي تقريباً في إنتاج الأدوات والتجهيزات والآلات بدءا من التردد الصفري ومروراً بترددات الضوء المرئي، ووصولا إلى الأشعة السينية عند التردد El 510 هرتز، لقد تبين أن جميع الأدوات والتجهيزات الكهربائية تصدر حقولاً كهربائية ومغناطيسية أو أمواجاً كهرومغناطيسية (وأحياناً كليهما) تبعاً للتردد الذي تعمل به.
وسيقتصر الحديث هنا على التلوث الذي تسببه الحقول الكهربائية والمغناطيسية المتناوبة ذات التردد المنخفض جداً (50/ 60 هرتز) وتأثيره على صحة الإنسان باعتبار أن معظم التجهيزات والتعديدات الكهربائية التي تتعامل معها تصدر مثل هذه الحقول .
يرتبط انتشار الحقل الكهربائي بجهد المنبع الكهربائي (الفولت)، ولحسن الحظ يتم في الغالب حجب هذا الحقل عن طريق جدران وأرضيات المباني ووصل الأغلفة المعدنية للتجهيزات الكهربائية بالأرض، وفي المقابل فإن انتشار الحقل المغناطيسي مرتبط بمرور التيار الكهربائي (الأمبير)، ولا يمكن حجب هذا الحقل بسهولة كما هو الحال مع الحقل الكهربائي، ولهذا ينتشر الحقل بسهولة كما هو الحال مع الحقل الكهربائي، ولهذا ينتشر الحقل المغناطيسي بلا قيود تقريباً وفي محيطنا متغلغلاً عبر الجدران والحواجز إلى داخل جسم الإنسان والكائنات الحية عامة، وبالتالي تركز معظم الدراسات العلمية على مدى تأثر الحقول المغناطيسية المتناوبة على صحة الإنسان.
إن التجهيزات والمنابع الكهربائية العاملة بالترددات المنخفضة جداً تصدر حقولاً كهربائية ومغناطيسية غير مؤينة، أي أنها لا تمتلك طاقة كافية لتأيين الهواء أو لقصم عري الروابط الكيميائية بين الجزئيات المكونة للخلايا والنسج العضوية للكائنات الحية أو تفكيك للورثات (الجينات) على عكس الإشعاعات المؤينة كالأشعة السينية وفوق البنفسجية وينحصر تأثير هذه الحقول على جسم الإنسان في تطبيقها لقوى كهربائية ومغناطيسية على الجزئيات في الخلايا والنسج مما قد يؤدي إلى إزاحتها أو توجيهها، وكذلك في توليدها لتيارات كهربائية ضعيفة نسبياً قد تتداخل مع أو تشوش السيالات الكهربائية العصبية الموجودة أصلاً في الجسم.
الصلب الوبائي
ومع ذلك فقد أثارت بعض الدراسات في علوم الطب الوبائي الإحصائي قبل عقدين من الزمن، مسائل مهمة تتعلق بالتأثيرات الحيوية (البيولوجية) الضارة المحتملة الناجمة عن تعرض الإنسان المحقول المغناطيسية ذات التردد المنخفض سواء في المواقع السكنية أو أماكن العمل فقد لوحظت زيادة في عامل مخاطرة، الإصابة بسرطان الدم (اللوكيبيا) عند أطفال تقع منازلهم بالقرب من خطوط الجهد العالي كما أن معدل الإصابة بسرطان الدم المفاوي هو أعلى من المعدل (المتوقع) لدى العاملين في مجال صناعات الطاقة الكهربائية وبعض الصناعات المشابهة الأخرى، وكان من البديهي أن تحدث مثل هذه الدراسات ضجة كبيرة في الأوساط الشعبية والإعلامية في الدول الصناعية، وينتقل صداها إلى أنحاء العالم، ومنذ ذلك الوقت جرت مئات الدراسات لتشمل احتمالات الإصابة بالأورام الدماغية وأمراض القلب والأوعية والإجهاض المبكر ومرض الزهايمر، إضافة إلى إمكان الإصابة بالأمراض النفسية كالكآبة والقلق وغير ذلك.
لقد جاءت نتائج هذه الدراسات والتجارب متناقضة ما بين التأكيد والنفي لهذه التأثيرات كما أن طرائق البحث المختلفة المتبعة لا تكمل بعضها البعض في الغالب، فالدراسات الوبائية الإحصائية. كما هو معروف، لا تسمح بتحديد العلاقة بين السبب (الحقل)، والنتيجة (المرض)، بشكل دقيق أما التجارب المخبرية على الأنسجة والخلايا، فإبمكانها تحديد هذه العلاقات، إلا أن السؤال يبقى عن مدى إمكان تعميم نتائج التجارب المخبرية للأنسجة وللخلايا على كامل جسم الإنسان.
وإزاء هذه التناقضات، طلب الكونجرس الأمريكي، عام 1992، إلى المعهد الوطني لعلوم الصحة والبيئة وعدد من المؤسسات العلمية والصحية الأخرى البدء ببرنامج بحثي وتحليل شامل يهدف إلى إجراء بحوث جديدة ومراجعة عامة لكل الدراسات السابقة وتقديم البراهين على مدى خطورة التعرض للحقول الكهربائية والمغناطيسية ذات التردد المنخفض في عام 1998 خلصت مجموعات العمل المكونة للبرنامج إلى نتيجة مفادها الآتي.
"لم تتمكن أي مجموعة عمل من التواصل إلى دليل كاف لتصنيف التعرض للحقول الكهربائية والمغناطيسية ذات التردد المنخفض جداً على أنه سرطان معروف أم محتمل للإنسان، ومع ذلك فقد توصل معظم أعضاء لجنة صياغة التقرير النهائية إلى نتيجة مفادها أن التعرض لهذه الحقول يؤدي إلى سرطنة ممكنة للإنسان، وقد بنى قرار اللجنة بشكل رئيسي على الدلائل المحدودة على زيادة مخاطر سرطان الدم عند الأطفال المقترنة بالتعرض المنزلي وزيادة حدوث السرطان اللمفاوي المرتبط بالتعرض المهني، أما بالنسبة لأنواع السرطانات الأخرى أو الأمراض غير السرطانية فإن مجموعة العمل هذه قد صنفت البيانات التجريبية بأنها تقدم دليلاً أكثر ضعفاً أو أنها لا تدعم التأثيرات الناجمة عن التعرض لمثل هذه الحقول.
وواضح هنا أن صياغة نتيجة التقرير تبدو بعقدة بل ومربكة لعامة الناس ولربما لصناع القرار، فقد اعتمدت الصياغة على تصنيفات علمية خاصة للمواد وللعوامل المسرطنة وضعتها الوكالة الدولية لأبحاث السرطان LARC فالأسبست مثلاً مصنف لدى الوكالة كمادة مسرطنة معروفة والفور الدهيد محتملة والقهوة مسكنة..) وهكذا جاءت نتيجة التقرير حذرة ودبلوماسية إلى حد كبير، وهي دبلوماسية قد ترضي في الواقع جميع المعنيين بالأمر، لكن دون إعطاء جواب قاطع.
إن "إمكان" وجود تأثيرات سلبية للحقول المغناطيسية على صحة الإنسان يتطلب إلمام الفرد بأساسيات التعرض لها، وبالتجهيزات والمنابع التي تصدرها، وبالتالي اتخاذ الإجراءات الاحتياطية أثناء التعامل اليومي معها، يتناسب تعرض الإنسان المحقل المغناطيسي المتناوب.
- طرداً مع شدة التيار الكهربائي للجهاز أو المنبع.
- عكساً مع المسافة الفاصلة (البعد) بين الإنسان والجهاز أو المنبع الكهربائي.
- طرداً مع المدة الزمنية للتعرض (قصيرة، طويلة أو دائمة).
وهكذا يتعرض كل فرد يومياً إلى جزعات، متغيرة من هذه الحقول تبعاً لطبيعة نشاطاته المنزلية والمهنية ومكان وجوده وحتى مستواه المعيشي.
إن تنوع مصادر وشدة الحقول المغناطيسية الصنعية المحيطة بنا في كل مكان تجعل من المتعذر اتخاذ إجراءات وقائية ناجحة تماماً حيالها، وعلى ضوء معارفنا الحالية فإن أفضل ما يمكن إتباعه هو الحد التعرض التراكمي اليومي، وقد يساعد في ذلك فصل التجهيزات عن المنابع الكهربائية عند عدم استعمالها والابتعاد قدر المستطاع عن الأدوات والآلات العاملة، وخاصة المزودة منها بالمحركات الكهربائية كما أن ترشيد استخدام التجهيزات لمنزلية والمكتبية إلى الحد الزمني الأدنى محبذاً ليس من وجهة النظر الاقتصادية فحسب، بل الصحية أيضاً.
ورغم كل هذه المخاطر الممكنة للحقول الصنعية ستستمر المجتمعات البشرية في استثمار الطاقة الكهربائية "النظيفة" حتى ولو غرقت في بحرها الملوث. وستظل المنتجات الكهربائية تسحر الباب الأفراد والجماعات وإن انقلب السحر على الساحر.
المصدر : مجلة بيئتنا - الهيئة العامة للبيئة - العدد 59