وفرت سجلا يوميا دقيقا للطقس قبل مئات السنين
سجلات السفن القديمة تبوح بأسرار التغير المناخي
فادية سليمان
كانت لحظة حاسمة في التاريخ البريطاني، الاسطول الملكي البريطاني انتصر على الاسطولين الفرنسي والاسباني في معركة الطرف الأغر، التي جعلت من الأدميرال نيلسون اسطورة في البطولة ومنحت المعركة اسمها لاكبر ساحة لندنية وهي ساحة الطرف الأغر أو «ترافلغار سكواير» بالانجليزية وإلى مئات المتاجر في انحاء انجلترا واليوم بعد مرور قرنين قدم ذلك الحدث التاريخي لعالم المناخ دنيس ويلر نصراً خاصاً به.
فقد ساعدته سجلات سفن اسطول نيلسون في اثبات أن الملاحظات التي دونها البحارة من واقع رصدهم للريح والطقس قبل أن تتوفر لديهم أجهزة الرصد الموثوقة، يمكن أن تعطينا سجلاً يومياً دقيقاً للطقس قبل مئات السنين، وقد يكون ذلك مفتاحاً لفهم ما يجري في مناخ العالم اليوم.
علماء المناخ والساسة بحاجة ماسة لمعرفة ما إذا كانت التغيرات المناخية التي يشهدها العالم اليوم هي حقاً غير مسبوقة أم أن الأرض شهدت في عهود سابقة تغيرات مناخية سريعة مشابهة ويقول ويلر «إذا عدنا إلى الماضي، ووجدنا أنه لم يكن هناك أي شيء كالذي نشهده اليوم فذلك سوف يعزز الحجج المساقة للدلالة على أن النشاط البشري يتحمل بمسؤولية التغيرات المتسارعة التي نشهدها اليوم».
وفي سبيل هذا الهدف يقوم ويلر بجولات مكوكية متواصلة بين جامعة ساندرلند في شمال شرق انجلترا والمتحف البحري الوطني في غرينيتش بلندن، ويبدو ويلر مقتنعاً بأن وفرة المذكرات المدونة في سجلات السفن قد تقدم محاضر يومية عن حركة الرياح وحالة الطقس في المحيط لفترة تصل إلى منتصف عام 1700 وريما قبل ذلك.
بحلول أواخر القرن السابع عشر، كانت الأمم الأوروبية المشتغلة بالملاحة البحرية تملك اساطيل سفن تجوب البحار وتحتفظ جميعها بسجلات شديدة التدقيق والتفصيل حول مجريات رحلاتها، وفي عام 1731، اصبح لزاماً على سفن الاسطول البريطاني الاحتفاظ بسجلات خاصة لتفاصيل الأداء وبحلول عام 1750 اصبحت هذه الممارسة عرفاً معمماً في انحاء العالم، ولا تزال مئات الألوف من هذه التسجيلات محفوظة في نظم الأرشيف في كل من بريطانيا واسبانيا وهولندا وفرنسا، وعلى الرغم من احتوائها على ملاحظات عرضية عن احداث مهمة معركة بحرية أو الوصول إلى أرض غريبة أو حدوث تمرد في السفينة، فإن تلك السجلات في معظمها مليئة بملاحظات دقيقة مدونة عن مراقبة الريح والطقس.
وتعتبر هذه توصيفات مباشرة تضم معلومات عن شكل الطقس في يوم معين، وقد تظهر تفاصيل غير مسبوقة عن كيفية تباين انماط الريح وهطول الأمطار والجليد وتقدم أو تراجع جليد بحر الشمال لكن هل هذه البيانات دقيقة بما يكفي لاعادة رسم صورة عن مناخ الماضي؟
لقد كانت لدى البحارة دوافع قوية جداً لمراقبة الطقس بدقة وتدوين ملاحظاتهم بأدق التفاصيل وذلك لاسباب عديدة ليس اقلها أهمية أن هذه السجلات كانت حيوية للابحار في وقت لم تتوفر وسائل لتحديد خطوط الطول بدقة، وكان البحارة بحاجة لمعرفة قوة الريح واتجاهها لحساب سرعتهم وموقعهم، وكان عمال المراقبة يقومون في كل نوبة أي حوالي كل أربع ساعات بتفقد قوة الرياح واتجاهها وتسجيل ملاحظات أخرى أيضاً عن الطقس مثل حالة الجو، ما إذا كان صافياً أم ضبابياً، مطيراً أم مشمساً، وما إذا كان هناك جبال جليدية في الأفق.
لقد استفاد المؤرخون كثيراً من سجلات التجارة، لكن العلماء كانوا دائماً ينفرون من الاستعانة بها، لاعتبارات عديدة نابعة من عدم الثقة بالمعلومات التاريخية كأساس للبحث العلمي العميق لكن ويلر رأى أنه بالتعامل مع تلك البيانات بعناية بعد التحقيق من اصلها يمكن ايجاد مصدر جديد بالغ الثراء لدعم البحث العلمي.
وفي عام 2000، اطلق ويلر مشروعاً ضم فرقاً من هولندا واسبانيا والارجنتين حيث تركت العديد من السجلات بعد انهيار الامبراطورية الاسبانية وراحوا يمحصون في حوالي 2000 سجل سفينة وبتمويل من الاتحاد الأوروبي، بدأ الباحثون في وضع قاعدة بيانات مناخية لمحيطات العالم ما بين 1750 و 1850 حيث أن السفن اصبحت تزود بتجهيزات لجمع بيانات الطقس بعد تلك الفترة.
ولاعادة تركيب صورة المناخ الماضي، يحتاج واضعو نماذج تمثيل مجالات الضغط الجوي، واقتفاء اثر المرتفعات والمنخفضات الجوية لدى تحركها عبر البحر.
وقام الباحثون بالتمحيص في سجلات السفن لنبش بيانات المراقبات اليومية لموقع السفينة وقوة الريح، واتجاهها اضافة إلى أي معلومات عامة عن الطقس، وكانت النتيجة ما يوازي مليوني يوم من المعلومات، ويقول كلايف ويلكنسون من متحف غرينيتش والذي اشرف على ابحاث المشروع «كان بوسعنا أن نرسم صورة للريح وهي تتراجع أو تغير اتجاهها على مدار اليوم، وفي الحقيقة أنه كان هناك بيانات أكثر من اللازم لدرجة أن قيدنا انفسنا في مجمع بيانات الطقس لفترة الظهر».
واجه الباحثون صعوبات كبيرة في ترجمة التوصيات اللفظية لحالة الطقس، وشدة الرياح إلى أرقام علمية ملموسة، إذ كان البحارة يستخدمون مترادفات عديدة لوصف شدة الرياح مثل القول بأن الريح خفيفة أو عنيفة ورهيبة ...الخ، ولتوحيد تلك المعايير كان لابد من المقارنة.
وقد قدم الاسطول البريطاني في الطرف الأغر الفرصة المثالية لمقارنة السجلات والتأكد من مدى دقة تطابقها، في شهر اكتوبر من عام 1805 كان نيلسون يقود 30 سفينة حربية وقارب دعم في مياه الاطلسي قبالة جنوب غربي اسبانيا، وكان يوجد على متن كل سفينة قبطان وعدة ملازمين جميعهم يسجلون مدونات عن الرحلة.
وبالتمحيص في عينة مؤلفة من 13 سفينة أخرج ويلر سجلات شدة الريح واتجاهها وحالة الطقس في كل يوم من ذلك الشهر وكان هناك تطابق بين 70 في المئة من بيانات السجلات، باستثناء بيانات يوم المعركة حيث كان الضباط منشغلين باشياء أكثر اهمية والحاحاً من مراقبة الطقس.
والآن بعد أن اثبت ويلر حجم الاهمية الكامنة في بيانات هذه السجلات، فإن الأمر يبقى متروكاً لخبراء نماذج تمثيل الطقس للنظر في كيفية استخدامها ففي جامعة ايست انجليا البريطانية، بدأ فيل جونز وفريقه باستخدام البيانات لرسم صورة كاملة عن تدفق الريح وضغط الهواء فوق بحر الشمال وجنوب الاطلسي والمحيط الهندي، ويتوقع جونز أن يتمكن في نهاية المطاف من انتاج خرائط طقسية اجمالية لكل شهر من الفترة الواقعة بين 1750 و 1850.
ويبدي جونز اهتماماً خاصاً في إعادة رسم سلوك ظاهرة تذبذب شمال الاطلسي «ناو» المشابهة لظاهرة «النينو» ويحدد تأثير «الناو» ما إذا كانت شتاءات أوروبا معتدلة أم قاسية مطيرة أم جافة وكيف يتغير الطقس بين شمال أوروبا وجنوبها مخلفاً الجفاف في بعض المناطق والفيضانات في أخرى.
ويروق للمشككين في ظاهرة التسخن الأرضي الاعتقاد بأن تقلبات «الناو» تتحمل مسؤولية الجزء الأكبر الاشياء بطريقة معاكسة، ويبدو قلقهم من أن التسخن الأرضي ربما يتدخل في دورات الناو. وقد تساعد البيانات المجموعة من سجلات السفن في تسوية هذا الاختلاف.
وسوف تنتشر قاعدة البيانات المناخية لمحيطات العالم بين 1750 و 1850 على الانترنت العام المقبل، موفرة للباحثين في مختلف انحاء العالم حرية الوصول إلى تقارير مفصلة عن الطقس في عصر ما قبل اجهزة القياس.
المصدر : مجلة بيئتنا - الهيئة العامة للبيئة - العدد 65