116 جزيرة بانتظار موسى يحميها من الغرق
البندقية .. شوارع من ماء يبتلعها الأدرياتيكي!
عنود القبندي
يعرف عن الايطاليين حبهم للحياة والتمتع بأكبر قدر من الإجازات مغتنمين أول فرصة تتاح لهم. تحتــــفل مدينة البندقية (فينيسيا) أشهر مكان لاحتفالات الكرنفال والتخفي وراء الأقنعة لكن جنون هذا التقليد القديم أصاب هذا العام كافة أرجاء ايطاليا من الشمال إلى الجنوب خاصة بعد اكتشاف مزاياه السياحية وموارده المالية فالناس يحبون الاحتفالات العامة في الشوارع والسواح يتمتعون بالفضول لرؤية أهل البلد وهم يحتفلون ويتمازحون ويبتهجون لرؤية الاستعراضات والفرق الموسيقية.
يقولون إن الكرنفال كان احتفالا قديما من أيام الرومان لتمجيد زحل (أو ساتورن) إله الزراعة عندهم حين ينتهي الشتاء ويطل الربيع بآفاق الحياة المتجددة لذا يخرج الناس في الشوارع ويسترسلون في القصف وينفسون عن مشاعرهم المكبوتة ليوم واحد خلال العام حيث يمكن للعبيد الاستهزاء بأسيادهم فيرفعون الدمى المتحركة ثم يحرقونها. حين تحولت ايطاليا الى المسيحية بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية لم تحبذ الكنيسة الاسترسال في هذه الطقوس الوثنية لكن العادات القديمة عادت للظهور بعد قرون متلونة بأشكال جديدة فصارت أغلب المدن والقرى تقيم الاحتفالات الشعبية مبتهجة بانتهاء البرد وقدوم فصل الربيع. أشهر احتفالات واستعراضات ايطاليا تكون في فينيسيا. ويصرف أبناء المجتمعات الراقية الكثير من المال والوقت للتحضير لهذا الاحتفال لأنه يشكل واجهة اجتماعية في المجتمع الراقي, أما صناع الأقنعة فان لهم مكانة خاصة يتمتعون بها ولهم قوانينهم الخاصة بهم ونقابة عمل. لقد كانت صناعة الأقنعة في البداية تعتمد على مواد أولية إما من الورق أو من الجلد أو القماش وكانت تزخرف وتطرز وتزين.
كرنفال الأقنعة
جاء ذكر الكرنفال لأول مرة في فينيسيا عام 1268، أيام رحلات ماركو بولو الى الصين، وهي مدينة لا مثيل لها في العالم بشوارعها المائية التي وصفها الكاتب الروسي تشيخوف بأنها فاتنة وساحرة ومتألقة وحافلة بحب الحياة لذا فاحتفالات الكرنفال فيها تجربة لا تنسى من التجمعات في ساحة سان ماركو والتخفي بالأقنعة يتبعها الانطلاق بالباصات أو البواخر التي تعبر القنوات المائية وتتهادى أمام قصور النبلاء تستعيد ذكريات زير النساء المحلي الشهير كازانوفا. يتميز كرنفال فينيسيا بارتداء مختلف أنواع الأقنعة. والكلمة تعني بالايطالية «ماسكيرا» لعلاقتها بعادة تلطيخ الوجه باللون الأسود في طقوس السحر البدائية لكن القناع في فينيسيا فقد مع مرور الزمن جزءا من طابعه الأصلي وصار أداة تنكر في الاحتفالات الشعبية فتحول دوره إلى نوع من المحاكاة التهكمية واستعمله البعض لإخفاء شخصيته، لذا صدرت الأوامر الحكومية بمنع ارتداء القناع في الكرنفال في الماضي وآخرها أيام حكم موسوليني لكنه عاد إلى الظهور في فينيسيا منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي بأشكال فنية متقنة وباهظة الثمن أحيانا فــــــــهو مصنوع من الجلد أو مـــــما يسمى الورق المـلوك )بابيه ماشيه أو كارتا بيستا بالايطالية( وهي مادة مصنوعة من عجين الورق ممزوجة بالغراء وغيره من المواد الدبقة يجري طلاؤه بالأبيض قبل الرسم النهائي عليه وهناك نقابة للحرفيين المختصين بصنع الأقنعة في فينيسيا تم إنشاؤها منذ خمسة قرون. تشارك الفرق الموسيقية في هذا المهرجان فهي تعزف الألحان الشعبية كما أن الغريب أن طيور الحمام أيضا تشارك في المهرجان ولكنها لا ترتدي الأقنعة فهي لا تخفي شيئا مثل الناس.
الجمال الغارق في الماء
تعاني منطقة البندقية الايطالية كما أطلق عليها العرب من مشكلة الفيضانات وارتفاع مستوى الماء والتي تعتبر مشكلة مزمنة ولكن تحميها بحيرة ضحلة لا تنفصل عنها يسمونها « لاغون» يبلغ قطرها 55م² حيث تعد أكبر أرض للمستنقعات في حوض المتوسط ومكانا ملائما لتكاثر أنواعاً عديدة من الطيور البحرية كالإوز الأخضر.
لقد بدأ منسوب المياه بالارتفاع تدريجيا في الجزيرة منذ منتصف القرن العشرين، ويرجع العلماء السبب في هذا هو التغيّر المناخي. إن البندقية شهيرة كجمهورية تجارية بحرية سيطرت على التجارة في البحر المتوسط ولعبت دورا مهما في الحروب الصليبية وجلبت التوابل والزعفران إلى أوروبا من الشرق لاستعماله في تزيين المآكل وتبخير المسارح والوقاية من الطاعون.
الغرق التدريجي
لقد أطلقت منظمة اليونسكو الدولية حملة واسعة النطاق لإنقاذ البندقية من الغرق التدريجي منذ العام 1966، واعتبرتها جزءا من تراث الإنسانية. وتواجه المدينة اليوم أسوأ فيضان تعرضت له، خاصة في شوارعها التي لا تخضع للخطوط المستقيمة نظرا لطبيعة الجزر وجغرافيتها. لكن المشكلة الآن هو هطول الأمطار الغزيرة المتواصلة التي ضرت الإنتاج الزراعي في كافة المدن والأرياف الايطالية وخاصة في فصل الشتاء الذي يكون بشكل كبير جدا مصحوبة بريح عاصفة وارتفاع المد إلى حد خطير بشكل كبير جدا مصحوبة بريح عاصفة وارتفاع المد إلى أخطر ما مر في تاريخ المدينة، نتيجة الاحتباس الحراري الذي بدأ يشتد منذ العام الماضي. ووصل مستوى مياه البحر إلى 152سم، وهو أعلى مستوى منذ العام 1968. ودفع هذا الأمر بأفراد الحماية المدنية ورجال الإطفاء إلى إطلاق صفارات الإنذار وإقامة الجسور الخشبية في ساحة سان ماركو، لتسهيل عبور المارة، بينما اضطر العديد منهم للغوص في المياه بأحذية مطاطية عالية وزعت عليهم. ولقد كانت الأمطار تهطل بمعدل عشرة ملم يوميا، فبعض الأنهار فاضت وهددت العالم بالطوفان حيث توقفت المواصلات البحرية في البندقية لعدة أيام. ومع مشكلة التغير المناخي والاحتباس الحراري الذي قد يضر بعض الأنظمة البيئية في الكثير من الدول بدأت تأثيراته واضحة على منطقة البندقية الايطالية التي لم تشهد مثل هذه الأحوال الجوية السيئة منذ عشرات السنين، وربما منذ مئة عام. فهناك أغنية شهيرة منذ الستينات ذكر فيها تغنوا بها لسوء الأحوال الجوية التي تمر بها البندقية وهي «كم هي حزينة فينيسيا... اختفى منها الحب ولم تعد الدموع كافية فبقي بحار قارب الجندول لوحده ينظر إليك».
خطط لإنقاذ البندقية
إن مياه الفيضانات تغمر ميدان «سانت مارك» أكثر من 50 مرة كل عام، كما أن ارتفاع مستوى البحر الادرياتيكي يهدد بأن يغمر أجزاء كبيرة من المدينة خلال العشرين عاما المقبلة،في حال لم تفعل الحكومة الايطالية شيء. فقد شرعت الحكومة الايطالية في بناء مشروع ضخم أطلقت عليه اسم «موسى» وتبلغ تكلفته 5 مليارات دولار، وهو عبارة عن إنشاء 80 سداً أو حاجزاً حديدياً في قاع البحر عند مدخل كل قناة مائية إلى المدينة بهدف التحكم في حركة المد والجزر، وحجز الأمواج العالية من الدخول إلى شوارع المدينة المائية. وبهذه الطريقة يصبح ارتفاع المياه ثابتاً أو يتحكم فيه الإنسان تماما مثلما هو الحال في السدود العادية. وبالفعل فقد أنفقت الحكومة حتى الآن أكثر من 1.1 مليار دولار على هذا المشروع الذي يتوقع أن ينتهي في عام 2010، ولكن منتقدي هذا المشروع يخشون من أنه سيجعل من مياه مدينة البندقية بركة راكدة لا تتجدد فيها مياه البحر بشكل طبيعي. فقد ذكر رئيس لجنة الصيانة اليومية لمرافق المدينة من أن حكومته أنفقت كل ما لديها من مال على مشروع «موسى» بينما تعاني المرافق الأساسية خصوصا شبكة الصرف الصحي من مشاكل تضاهي في حجمها مشكلة الفيضانات وارتفاع مياه المد والجزر.
بوابات مانعة
لقد طرح الخبراء الإيطاليون حلا جديدا جذريا لخطر الغمر بالمياه الذي يتهدد مدينة البندقية. وبدلا من الاستمرار في المعركة الرامية لحسر المد البحري، يريد الخبراء استخدام منسوب المياه نفسه في المساعدة على رفع المدينة الغارقة. وتشمل الخطة ضخ كميات ضخمة من مياه البحر تحت ارض المدينة في 12 أنبوبا يصل طول كل منها إلى 700 متر. ويهدف الخبراء إلى أن تؤدي مياه البحر إلى توسيع نطاق الرمال تحت المدينة بما يمكن من رفعها لمسافة 30 سنتيمترا خلال عشر سنوات. يذكر أن مدينة البندقية (فينيسيا) تتعرض لخطر الغرق ببطء، بسبب ارتفاع مستويات المياه في البحر الادرياتيكي، كما تتزايد أعداد الأمواج المرتفعة التي تضرب المدينة. وتنفق الحكومة الإيطالية 4.5 مليار يورو على مشروع مثير للجدل لبناء بوابات مانعة للفيضانات على المداخل المؤدية لوسط المدينة الذي تقف عليه اغلب مبانيها في محاولة لإبقاء مياه البحر عند الشاطئ. إلا أن لجنة من المهندسين والجيولوجيين من جامعة بادوا التي تحظى بالاحترام تقدمت بالاقتراح الجديد الذي لن يتكلف إلا 100 مليون يورو. وتقول اللجنة إن الخطة الجديدة سترفع المدينة بمقدار ما أنخفضه مستواها عن البحر خلال القرون الثلاثة الماضية. وقال البروفسور الذي يقود المشروع الجديد انه ليس بديلا لبوابات منع الفيضانات ولكنها سيعمل بالتكامل معها. كما يريد الآن إجراء تجارب لمعرفة ما إذا كانت النظرية ستنجح في التطبيق. إلا أن الفكرة لم تقنع الجميع.
جغرافية البندقية
تعتبر مدينة البندقية عبارة عن عدة جزر يصل عددها إلى 116 جزيرة يصل عددها إلى أكثر من 100 متصلة ببعضها عن طريق الجسور، وما زالت هذه المدينة من أصعب أماكن التنقل عمليا وهندسيا فطرق التنقل فيها تنحصر في القوارب الكلاسيكية المتوفرة بكثرة في المدينة والتي تعرف بـ « الجندول» وهذه المدينة تطل على البحر الادرياتيكي، وتعتبر هذه المدينة من أجمل المدن الايطالية لما تتمتع به من مباني تاريخية بالإضافة إلى قنواتها المائية المتعددة الأمر الذي يجعلها فريدة من نوعها على مستوى العالم، كما أنها تعد المدينة المثالية من ناحية عدم استخدام السيارات والشاحنات على المستوى الأوروبي والعالم.
المصدر : مجلة بيئتنا - الهيئة العامة للبيئة - العدد 112