بيئتنا بيئتنا البوابة البيئية الرسمية لدولة الكويت

جنون البقر

جنون البقر

يتحدى علماء الأحياء والطب

لماذا جنت الأبقار؟

عبدالوهاب السيد

فجأة، راحت وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم تقريباً تتحدث عن كارثة غريبة من نوعها أصابت البقر وأدت إلى هلاك مئات الآلاف منها مما سيتسبب دون شك في كارثة غذائية مروعة.. تصبح البقرة تدريجيا أكثر هياجا.. وأقل قدرة على الوقوف على أقدامها  فتراها تترنح وكأنها أفرطت في شرب المسكر.. وهو ما يحصل فعلاً على الرغم من الصورة الساخرة التي ستتبادر إلى مخيلتك.. وتتصرف بعدها بطريقة غريبة وبردود فعل لا يتوقعها أحد إلى أن تموت. المسبب الرئيسي لمرض جنون البقر ليست بكتيريا أو حتى فيروس كما قد يظن البعض.. بل هناك مسببً جديد أطـلق عليه اسم (بريون).. ما هو (البريون) ؟؟ هذا ما سنعرفه فتابعونا..

ما هو البريون؟

البريون هو كائن ذو أبعاد متناهية في الصغر.. وصفاته لا تشبهه أي كائن حي آخر، إنه يمثل تحدياً لعلماء الأحياء والطب.. فهو يتكاثر مع أنه لا يحتوي في تركيبه على جزيئات التكاثر الوراثية !! أي أن وجـود مثل هذا الكائن يهز القوانين الأساسية لعلم الجينات ويناقض قوانين الحياة المعروفة.. لذا فهو أحد ألغاز هذا العالم.. فمن المبادئ الراسخة في علم الأحياء عدم وجود كائن يتكاثر من دون أحماض نووية، سواء كان هذا الكائن بكتيريا أو ذبابة أو حصانا أو حتى ديناصوراً.!! فهو ليس سوى بروتين.. بروتين خارق للعادة لا يحوي أحماضا نووية DNA  أو RNA  لكنه برغم ذلك يتكاثر، فكيف يتم ذلك ؟

تاريخه

في عام 1986 أعلن عن أول حالة جنون بقر في بريطانيا، قبلها لم يكن هذا المرض معروفا على الإطلاق. وساد اعتقاد قوي بأن احتواء علف الماشية على بريونات من الخراف المصابة بالرجفة (Scrapie ) هو السبب في ظهور المرض، وكان ذلك بعد أن عمد بعض أصحاب المزارع إلى إضافة أجزاء من أمخاخ ولحوم وعظام الخراف إلى علف الأبقار، لرفع محتواها من البروتين.

أما مرض جنون البقر (mad cow disease) والذي تجده في المصادر العلمية الجافة باسم مخيف هو (Bovine Spongiform Encephalopathy- BSE) هو "المرض الذي تفسد فيه أنسجة مخ البقرة، وتتحلل وتصبح هشة كالإسفنج"، إثر ذلك وفي عام 1988 قررت الحكومة البريطانية إعدام (3.7 ملايين بقرة )..  هذا المرض اكتشفه العالمان الألمانيان اللذان يسمى المـرض باسميهما في العشـرينات من القرن الماضي، وهو نوع من الخبل القـاتل Dementia يرتبط ظهوره مع حدوث الجروح الخطيرة في الجهاز العصبي. وفيه يصاب المرضى بتدهور نفسي وعقلي هائل، وينتهي الأمر بموت مؤكد، نتيجة تحلل أنسجة المخ. ولكنه مرض نادر، قد يصيب شخصا واحدا من كل مليون إنسان.

المهم أن الحالات العشر كان متوسط أعمارهم 28 عاما، كما أن أعراض المرض لم تكن بالصورة التقليدية، فمتوسط أعمار مرضى كرويتزفلد - جاكوب "التقليدي"  (CJD) يكون عادة 63 عاما، وعندما تم فحص أمخاخ المرضى بالأشعة، وجدوا أن أمخاخهم تعطي نمطا مقاربا لذلك الموجود في الأبقار المصابة بالمرض وليس صورته التقليدية. 

وتجدر الإصابة إلى إمكانية انتقال المرض عن طريق شرب حليب الأبقار المصابة!!
وكانت هذه أول إشارة إلى إمكان انتقال المرض من الحيوان إلى الإنسان، وتشير الإحصاءات إلى أنه في بريطانيا تم استهلاك 900 ألف بقرة مصابة، وسجلت 143 إصابة بالمرض نتيجة انتقال العدوى إلى الإنسان.

أعراض المرض

فترة حضانة المرض من سنتين إلى 15 سنة، ومرض رجفة الأغنام من 3 – 4 سنوات، أما مرض كرويتزفلد- جاكوب فأكثر من 10 سنوات !! ولا تظهر أثناءها على المصاب أية أعراض مرضية، تليها بصورة مفاجئة مرحلة من المعاناة الممرضة تنتهي عادة بالموت. 

ومن الناحية العصبية تظهر في جميع هذه الأمراض فراغات أو ثقوب في الدماغ حتى تبدو المنطقة المصابة كما لو كانت قطعة من الأسفنج المليء بالثقوب. وهي أمراض معدية تنتقل من المصـاب إلى السليم.. لقد ساد الاعتقاد لفترة طويلة أن سبب هذه الأمراض هو فيروس بـطيئ (منخفض مستوى النشاط) ذلك أن جميع الأمراض الناتجة عن الفيروسات البطـيئة تتصف بفترة حضانة طويلة، ولا تصيب إلا الجهاز العصبي، لكن (البريون) لا يشبه هذه (الفيروسات التقليدية البطيئة) .

طبيعة البريون

1- يظهر تحت المجهر الالكتروني أصغر بمائة مرة من أصغر فيروس معروف، وأصغر فيروس يبلغ قطره حوالي 20 نانوميترا، وطبعا الناونوميتر هو جزء واحد من مليون جزء من المليمتر. 

2- أظهرت تجارب " براون وكاثالا" P.Brown,F.Cathala – أن البريون يقاوم أقوى الأحماض والمطهرات ولا يشل فعاليته سوى ماء الجافل النقي Javel.

3- لاحظ " لاتارجيت – R.Latarjet" من معهد (كوري) في فرنسا، أن البريـون شـديد المقاومة للإشعاعات، فهو يبـقى فعالا حتى لو عـرض لإشعاعات شدتها 20 مليون راد ! وهذه كمية كبيرة جداً. 

4- يتحمل البريون  درجات الحرارة العالية والتي يمكنها سحق أي كائن أو بكتيريا أو سبورات، فتقاوم درجة حرارة 121 درجة مئوية ولمدة ساعة كاملة.

5- البريون، لا يثير أية ردود فعل مناعية في الكائن المصاب، بعكس الفيروس الذي يثير ردود فعل مناعية معينة مصدرها الخلايا اللمفاوية Lymphocytes التي تنتـج أجساما مضادة تهاجم الكائن الدخيل. 

يرجع الفضل إلى معرفتنا الكثير من صفات البـريون إلى العالم ستانلي بروزنرS. Prusiner - وهو أستاذ في مدرسة الطب في جامعة كاليفورنيا في أمريكا- الذي أثبت أن البريونات (يطلق عليها أيضا البروتينات البريونية) هي بروتينات تتواجد بصورة طبيعية على سطح فئة معينة من خلايا المخ، لكن هذه البروتينات تقوم، ولسبب غير معلوم، بطيّ نفسها بطريقة غير طبيعية، فتكتسب الطبيعة البريونية أي تصبح بريونات.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن بروزنر Prusiner قد حصل على جائزة نوبل عام 1997 في الطب تقديرا لاكتشافاته في هذا المجال، ولإثباته أن البريونات هي السبب في أمراض كرويتزفلت – جاكوب، وجنون البقر.

اكتشاف السبب

كان الحدث الصحي الأهم في العام 1996 هو انتشار مرض الماشية المعروف بجنون البقر في شهر مارس في بريطانيا ودول أوربية أخرى. فالمرض الذي أصاب البقر في بريطانيا اسمه العلمي مرض الدماغ الأسفنجي، وتدعوه العامة في بريطانيا مرض (جنون الأبقار) بسبب ما يرافقه من عوارض أهمها التصرفات غير الموزونة التي تظهرها الأبقار العليلة، والتي تقضي على الجهاز العصبي, خاصة الدماغ. وقد كشفت الأبحاث أن المسبب للمرض ليس بكتيريا ولا فيروسا بل مجرد مادة بروتينية، فالمعروف أن الأبقار حيوانات تقتات على الأعشاب فقط ولكن في حال خلطت أعلافها بمواد حيوانية كأدمغة وبقايا الخراف أو الماعز فإن القيمة الغذائية لهذه الأعلاف ترتفع بشكل كبير بسبب غنى تلك المواد بالبروتينات أو غيرها. وفي حال أكلت الأبقار تلك الأعلاف سمنت سريعا، مما يعد مكسبا لأصحاب مزارع البقر. 

ويأتي العلم الحديث ليبين أنه في بقايا الحيوانات تلك مادة بروتينية تفتك بالأبقار, وتدعى البريون Prion، وينتقل البريون عبر الغذاء إلى الأبقار ويدخل عن طريق المعدة دون أن يتأثر بعملية الهضم، ثم ينتقل إلى أدمغة الأبقار ليستقر كمادة صامتة , دون إحداث أي ردة فعل دماغية من قبل جسم البقر. وقد يبقى على هذا الحال عدة شهور أو بضع سنوات دون أن يظهر أي عوارض غريبة على الحيوان المصاب إلى أن تحين الفرصة المناسبة, فيضغط هذا البروتين على جينة معينة في خلايا الدماغ لتبدأ بإنتاج المزيد من البروتين القاتل نفسه.

 وتتراكم تلك البروتينات في الدماغ بشكل كتل صغيرة, سرعان ما تبدأ بتفتيت خلايا الدماغ مما يظهره بشكل الإسفنج بعد التشريح (ومن هنا كانت التسمية بمرض الدماغ الإسفنجي). والخطير في الأمر أن بروتين البريون هذا هو مادة ثابتة جدا لا تتأثر بالحرارة المرتفعة, لذلك فإن طبخ اللحوم الملوثة ليس كاف لإعدامها.

تأثير الكارثة على البشر

لم تقتصر خسائر تلك الكارثة الصحية على أصحاب مزارع البقر فقط, بل هددت كبرى شركات التجميل العالمية بخسائر فادحة. فالشركات تستهلك مواد كثيرة في منتجاتها، ذات أصل بقري كاليسيتين، والجيلاتين، والكيراتين وغيرها في إنتاج ملطفات، ومثبتات الشعر، ودهون للوجه، وغيرها. وسرعان ما بدأت تلك الشركات بجمع ما طرحته من مواد تجميل في الأسواق الأوروبية على الأقل، والسبب في ذلك الذعر هو أن هذا البروتين الشرس بإمكانه البقاء في تلك المواد دون أن تضعف إمكاناته، وهكذا ينتقل عبر مسام الجسم دون أدنى مقاومة.
ومن أحد الأمور الخطيرة تـمكن هذا البروتين من البقـاء فتـــــرة 15-12 سنة في الدماغ دون إظهار أي عوارض على الإنسان المصاب به. وسرعان ما تتوالى العوارض، كفقدان  التوازن خلال المشي، والرجفان، وعدم القدرة على التحدث أو بلع الطعام، واهتزاز في العاطفة بشكل عام. كل ذلك بسبب تراكم تلك المادة حول خلايا الدماغ، كما في الأبقار.  ولكن في حالة الإنسان تسمى هذه الحالة بمرض كرويتزفلد ـ جايكوب Creutzfedt- Jacob CJD Disease وهو أيضاً ينتمي إلى مجموعة الأمراض الدماغية الإسفنجية المعدية  TSE، وسنت الدول الأوروبية قوانين صارمة جداً بغية القضاء على هذه الآفة الخطيرة ومنها حرق الأبقار المصابة, أو التي يحتمل إصابتها, وإتلاف كل المواد الحيوانية المنتجة خلال الأعوام التي سبقت حادثة مرض جنون البقر ومن ضمنها قرار بمنع استعمال الأعلاف التي تحتوي على مخلفات اللحوم والعظام الحيوانية كغذاء للماشية، وقد تبعت الدول الأوروبية الأخرى هذا القرار باستثناء الدانمرك.

المصدر : مجلة بيئتنا - الهيئة العامة للبيئة - العدد 89