الحياة تعود ببطء إلى أهوار العراق
نبال نخال
يقول حيدر إنه لا يعرف الكثير عن صيد السمك ويلقي بشبكته إلى الماء من قاربه الضيق، أما صيده القليل من سمك الزوري، والذي لا يغطي قاع الصندوق المعد لاستيعاب السمك، فلن يجلب له أكثر من دولار واحد، هذا المبلغ بالكاد يكفينا، هذا ما يخبرنا به بينما يشق طريقه عبر الأعشاب للحصول على حاجته اليومية من السجائر، والده علمه كيف يصيد السمك قبل 13 عاماً، عندما كان يبلغ من العمر 10 أعوام، وذلك قبل أن يقوم صدام بتجفيف الاهوار متسبباً بإحدى اسوأ الكوارث البيئية في العالم.
والآن، تعود الاهوار إلى سابق عهدها تدريجياً، ففي المنطقة المحيطة بمدينة الناصرية الجنوبية، تقدر وزارة الري العراقية أن 400 ميل مربع قد تم غمرها بالماء، أي حوالي 7 في المئة من الهور المحيط بالناصرية، وحتى الآن، فإن عملية الغمر قد تمت بصورة عشوائية وليس بحسب تقارير سابقة لبرنامج البيئة التابع للأمم المتحدة، والتي توصي بإجراء دراسة واعية قبل محاولة إعادة تأهيل النظام البيئي المعقد.
إن عرب الاهوار، مثل حيدر محمد، مسرورون لما حدث، ولكنهم يريدون المزيد، فبعد عقد من الالغاء الثقافي، يأملون بأن تقوم الحكومة الجديدة بتعويضهم عن ذلك، من خلال بناء المدارس ومحطات معالجة المياه والعيادات الطبية، وإذا لم تقم بذلك، فستكون هناك مجموعة أخرى إضافية من العراقيين المحبطين وهم يحتلون اسفل القائمة من هذه الناحية.
وعلى غرار أبناء بينان المترحلين في بورنيو أو هنود الأمازون، فإن عرب الأهوار الذين يمتازون بمنازلهم المبنية من القصب وقواربهم الرفيعة ودودون مع الاجانب.
وحماس حيدر ينتقل بين الناس بسرعة كانتقال عدوى المرض، فقبل عام من الآن وبينما كان يقود السيارة على الطريق المجاور، كان جانبا السد عبارة عن ارض خراب مغطاة بتجمعات صغيرة من الشجيرات.
وفي ذلك الوقت، كان بعض من البقايا القليلة للاهوار يتمثل في بطاقات معايدة عليها صور رجال يصيدون السمك بين القصب تباع في ردهة فندق شيراتون البصرة، أما الآن، فإن مياه الاهوار اللامعة كالزجاج تشق سطحها نباتات جديدة وقوارب المشحوف، وهي عبارة عن قوارب رفيعة يدفعها الصيادون بواسطة اعمدة من الخيزران.
وبعد مرور بضعة أشهر فقط، يبدو منظر الاهوار المتجدد جميلاً جداً ووادعاً، وهنا يمكنك أن ترى السبب الذي جعل جلجامش، بحسب الاسطورة السومرية القديمة، يستسلم للنوم بجانب هذه المياة، ويترك نبتة الخلود تنزلق من قبضته.
يشير حيدر إلى قطعة مدفعية كبيرة، حيث المياه ترتطم بماسورتها الغارقة، يمد حمزة مكي، مساعده البالغ من العمر 13 عاماً، يده ليلمس المدفع، وكان والد حمزة قد اعدم خلال القتال في الاهوار، في وقت ما من بداية التسعينات، وكان حمزة صغيراً جداً، بحيث أنه لا يذكر سبب حدوث ذلك أو متى حدث، ومن حولنا، تختفي شاحنات ومدافع أخرى لموقع عسكري قديم، ولكن ما فعله صدام بالاهوار لن يختفي بهذه السهولة.
طوال قرون، كانت الاهوار الثلاثة الكبيرة التي تغطي جنوب العراق مناطق يصعب اختراقها وخارج حدود القانون، وخلال سنوات الثمانينيات، وفرت مخبأ للفارين من الخدمة العسكرية في الحرب الإيرانية العراقية، وبعد فشل انتفاضة الجنوب في عام 1991 التي اعقبت حرب الخليج الأولى، والتي شجعهم عليها الرئيس جورج بوش الأب ثم تخلى عنهم، اختفى المتمردون في شبكة القنوات المائية المعقدة ونباتات القصب الطويلة بمساعدة اخوانهم من عرب الاهوار.
جريمة القرن
وبوحشية، فرض النظام حصاراً على الاهوار، وقام بشق سلسلة من القنوات وجفف المياه، مما أدى إلى تقليص اكبر مستنقعات الشرق الأوسط، والتي تبلغ مساحتها 7500 ميل مربع بنسبة 90 في المئة، وفي مقابلة اجريت معه الخريف الماضي، زعم وزير الخارجية العراقي السابق طارق عزيز أن شاحنة محملة بغاز الخردل كان يبحث عنها مفتشو الامم المتحدة اختفت خلال الانتفاضة، ويعتقد على الارجح أنها قد استخدمت في الاهوار.
وعلى نحو يحمل عنصر المفارقة، فإن قوات صدام هي التي بدأت عملية إعادة غمر الاهوار بالمياه عندما قامت في العام الماضي، بتدمير سد قرب مدينة البصرة في محاولة منهم لابطاء تقدم القوات البريطانية والأميركية.
بعد ذلك باسابيع قليلة، وصلت مجموعة من عرب الاهوار إلى مكتب علي شاهين، مدير الري في محافظة الناصرية، لتطلب منه اطلاق كميات اكبر من المياه، وبحراسة الجنود الأميركيين، انطلق شاهين، مصطحباً معه إحدى الجرافات، وبدأ بهدم السدود وبفتح بوابات التحكم بالمياه.
يقول شاهين، وهو يقف أمام خريطة في مكتبه بالناصرية لم يخطر ببالنا ابداً اننا سنتمكن من غمر الاهوار، فقد كانت تحت حراسة الجيش ولم يكن باستطاعة أحد الاقتراب منها.
أما الخريطة التي تظهر عليها رقع كبيرة باللون الأزرق، حيث كانت الاهوار تغطي الجزء الاكبر من جنوب العراق، فقد كانت مخبأة في بيت أحد زملائه.
ويضيف شاهين خرجت مع اشخاص من المكتب وقمنا بعمل ثقوب في ثلاثة سدود، فاستغرق الامر ثلاث ساعات وتم تدمير السدود، شعرت بالرضا وبسعادة تغمرني، وبدأ الآلاف من الناس باطلاق النار في الهواء ابتهاجا.
وعلى خريطة أخرى، يشير شاهين إلى سلسلة من القنوات التي شقت بسرعة مذهلة في اوائل التسعينيات، وباتباع خطة بريطانية تعود إلى الخمسينيات، وكانت مصممة لزيادة الإمكانات الزراعية للمنطقة، قام المهندسون بإعادة توجيه مسار النهرين اللذين حافظا على ثقافة يعود تاريخها إلى أصول الحضارة.
لقد كان مشروع التجفيف حرباً بوسائل أخرى، الاخلاص للقناة الرئيسية ونهر أم المعارك، وبالطبع نهر صدام الذي شيد حديثاً، ولبناء هذه المشروعات، قامت الحكومة بالتعاقد مع مقاولين من المناطق الواقعة شمال شرق بغداد.
إدخال الزراعة
ويقول شاهين إن الحكومة حاولت أن تدخل الزراعة إلى السهل المجفف، عندما اختفت المياه، ولكن المشروع مني بالفشل، ومن بين قرابة النصف مليون نسمة من عرب الاهوار، لم يبق سوى ألف نسمة والبقية تشتتوا في المدن أو مخيمات اللجوء في إيران.
كان ذلك كارثة بيئية تضاهي تبخر بحر الآرال وقطع اشجار الامازون بحسب تقديرات الأمم المتحدة، حيث فقدت عشرات الأنواع من الطيور، بما في ذلك الأنواع المهاجرة، لوطنها الطبيعي.
وعندما جفت أرض الاهوار تغير المناخ في المنطقة مما ادى إلى تقليل معدل سقوط الأمطار وزيادة التصحر والتسبب باثارة عواصف رملية ربما تحمل ذرات سامة من مخلفات المستنقعات، وكان ذلك أيضاً كارثة اقتصادية للمنطقة، عندما توقف تصدير مئات الآلاف من الاطنان من السمك إلى بغداد، وأصبحت المزارع المقامة على اطراف الاهوار حوضاً ملحياً مع تبخر المياه قليلة الملوحة.
واليوم، الشيء الوحيد المفقود في خطط شاهين لإعادة غمر الاهوار هو الماء فمنذ اواخر الثمانينيات عملت السدود التي اقيمت في تركيا وسوريا والعراق ذاته على خفض معدل تدفق المياه في نهر الفرات من 400 متر مربع في الثانية 40 متراً فقط، بحسب ما يقوله شاهين وهو يحتاج إلى 3 مليارات متر مكعب من الماء لملء الهور المحيط بالناصرية فقط ويقول إن السلطة الانتقالية للتحالف قد اجرت دراسات ونحن نعمل بناء عليها.
ويضيف «رأيت 100 صحيفة في العراق ولم يأت أي منها على ذكر عرب الاهوار، ولكن الصحف الاجنبية مهتمة جداً بالموضوع هل تعتقد أن التحالف سيعمل حقاً على إعادة تأهيل الاهوار أم أن هذا مجرد دعاية؟».
وقبل مغادرتنا قام برسم خريطة بالقرى التي تستحق الزيارة في الاهوار وقال لنا «خذو حذركم، إنه مكان خطير جداً عودوا قبل المساء» ولدي مغادرتنا الفندق، ابلغنا مرة أخرى بوجوب التزام جانب الحذر، فالمنطقة مليئة بالمجرمين وبأنه حتى النساء يستطعن إطلاق قذائف «الآر بي جي».
يتذكر حنين ديخ، وهو في العقد الثامن من عمره الآن الحياة القديمة، التي كانت مزيجاً من صيد السمك والزراعة الموسمية ويتذكر زائراً بريطانياً في الخمسينيات ويقول حنين عن الرحالة والمستكشف «اعتاد أن يعبر الاهوار، فقد كان له قاربه الخاص به».
ويتذكر حنين أيضاً قدوم طائرات مروحية إلى المنطقة للتنقيب عن النفط، وهو تهديد آخر للاهوار، وكذلك الهجمات العسكرية الــ على قريته «الجويبير» خلال التسعينيات.
ويقول إن الجيش العراقي كان يبحث عن مجموعة من المتمردين الذين أقاموا معسكراً لهم على بعد كيلو متر واحد عن القرية التي تقع الآن على بعد خمسة كيلومترات في آخر طريق ترابي داخل ما كان أرضاً سبخة في يوم من الأيام إحدى الهجمات اسموها «انتقام عدي» لأن الجيش العراقي كان يبحث عن رجال حاولوا اغتيال الابن الاكبر لصدام.
ولكن حنين ليس متأثراً بدرجة كبيرة بارتفاع منسوب المياه في الاهوار
بلا فائدة
ويقول بهذا الخصوص بينما يجلس في ديوانه محاطاً بأبنائه والقرويين الآخريين عندما رأينا الماء، اعتقدنا أن كل شي جيد قد عاد وإذا ظل منسوب المياه كما هو عليه الآن، فسيكون بلا فائدة فهو لم يرتفع حتى الآن بدرجة تكفي للصيد أو الزراعة.
أما ابنه هاشم حنين، فقد اخرج قائمة بمطالب قدموها إلى بول بريمر، الحاكم المدني الأميركي في العراق، تخص قريتهم التي تضم 1500 عائلة وهي مركز صحي، محطة جديدة لمياه الشرب، طرق معبدة، مدارس أساسية وثانوية، جسر جديد، شبكة كهرباء معاد تأهيلها، إعادة الاهوار إلى ماكانت عليه، والقائمة طويلة.
ويقول هاشم «عندما التقينا ببريمر في يونيو الماضي، قال انه سيبحث هذا الأمر، ولكننا لم نسمع اي شيء لغاية الآن إن عليهم أن يفعلوا شيئاً لكي نستطيع أن نثبت لشعبنا أن الحكومة تمارس عملها».
أخذنا هاشم إلى المنطقة الواقعة خلف الديوان واطلعنا على حقول بدأوا بحراثتها ويعتبر هذا الجانب من السد الذي يعبر القرية جافاً ويقول في اشارة منه إلى السدود المبنية على طول مجرى الفرات «اعتدنا أن صيد الاسماك هنا ولكن بعد عام 1988، جفت هذه المنطقة فتركيا أخذت المياه».
ويقول الخبراء إن الزراعة في الاهوار أمر مشكوك فيه بسبب المحتوى الملحي العالي للمياه ... ولكن هاشم لا يبدو عليه القلق بهذا الخصوص.
يقول هاشم «يمكننا زراعة أي شيء هنا وأملنا هو إعادة الاهوار لكي نستطيع زراعة الامبار وهو نوع نادر وغال من الارز ولكن من أجل القيام بذلك، ينبغي التحكم بالسدود، فنحن بحاجة إلى مناسيب مياه مختلفة للزراعة والصيد» ويشرح ذلك بقوله إن المزارع المختلفة تحتاج إلى المياه في أوقات مختلفة والاهوار ليست فقط نظاماً بيئياً حساساً، وإنما يعتبر بالنسبة للناس الذين يعيشون هناك، نظاماً واسعاً ومعقداً للري يجب التحكم به بشكل حازم وإعادة غمر الاهوار لن يحل مشكلاتهم.
وفي طريق عودتنا من قرية الجويبية، توقفنا وتحدثنا إلى رجل يضع طبقة سميكة من القطران على قارب صيده وهو مثل حيدر مسرور بعودة المياه.
ويقول هذا الرجل «حمداً لله كنا في وضع سيء والآن لدينا الطعام مجاناً هذا القارب هو كل ما تركه لنا صدام كنت اخدم في الجيش أما الآن فأنا بلا عمل، ولهذا فإنني سأبدأ بصيد السمك ولكن لو كان لدي عمل آخر، ما كنت لأفعل هذا انقلوا تحياتي إلى بوش ربما قدم لنا شيئاً.
المصدر : مجلة بيئتنا - الهيئة العامة للبيئة - العدد 63