أحمد محارب الظفيري لـ "بيئتنا"في لقاء خاص المؤرخ الكويتي
غزلان العرب انقرضت .. ولم يبق منها سوى أسمائها يطلقها الناس على الحسناوات
ريهام محمد
ارتبط التراث العربي بالبيئة وكافة مكوناتها ومختلف مفرداتها، فلطالما كانت الصحاري العربية الشاسعة بحيواناتها المتميزة شكلا ومضمونا مصدر الهام للشعراء والأدباء، وساهمت إطلالة شبه جزيرة العرب على الخليج العربي في تطعيم الثقافة العربية وامتزاجها مع ثقافات أخرى وقد طال هذا التمازج والاندماج المكونات الطبيعية والكائنات الحية من انسان وحيوان ونبات.
وألقت التكنولوجيا والحياة الرقمية التي نعيش في صخبها بظلالها على بيئتنا العربية الأصيلة فطمثت منها ما طمثت وبدلت من معالمها وسماتها الكثير، والمقارنة بين صور من البيئة في بلاد العرب بالماضي وأخرى لذات المكان في الحاضر تضعنا أمام حيرة كبيرة وحزن اكبر حيث انقرضت الكثير من الحيوانات والنباتات التي ارتبطت بشكل قوي ووثيق بتراث العرب وأمثالهم وأفكارهم وأشعارهم وباتت كلها صور من زمن ماضي جميل.
«بيئتنا» بحثت عن السمات المميزة للبيئة العربية بحيواناتها ونباتاتها ما بقي منها وما اندثر من بوابة التراث والتاريخ من خلال التجول في ذاكرة مؤرخ كويتي كرس حياته لخدمة التراث والتاريخ العربي وعشق بيئة العرب بكافة تفاصيلها فكان خير مدون وحافظ لأجمل وأروع ماتضمنته من كائنات حية وظواهر طبيعية وأماكن هو الباحث في التراث والتاريخ الأستاذ أحمد بن محارب الظفيري.
حيوان حبيب
استعاد المؤرخ أحمد الظفيري مشاهد اختزنتها ذاكرته من الخمسينات والستينات من القرن الماضي حيث تذكر أسراب الغزلان التي كانت تجوب صحاري شبه جزيرة العرب والتي اختفت وأصبحت كالعملة النادرة، ومن هنا بدأ حديثه معنا عن الغزال العربي الذي انقرض حيث قال: الغزال ويسمى أيضا الظبي هو الحيوان الحبيب الجميل والرشيق المحبوب عند كل العرب والذي يهيم بحبه وعشقه منذ القدم أبناء جزيرة العرب «بادية وحاضرة» والغزال الذي أعنيه هو الغزال العربي أو الظبي العربي والمعنى واحد وهو الغزال الذي كان يعيش في بوادي جزيرة العرب أيام زمان، وهو يختلف عن غزلان الدنيا كلها بالحلاوة والجمال والبهاء والرشاقة ولحمه من ألذ وأشهى كل اللحوم على الإطلاق، ومن أراد التأكد من كلامي عليه أن يرجع إلى كتب الأدب العربي من شعر ونثر من العصر الجاهلي ومرورا بكل العصور المتلاحقة والمتعاقبة حتى الوصول إلى عصرنا الحالي الذي شهد بكل أسف وحسرة انقراض غزالنا العربي الحبيب).
مائة ظبي
وزاد المؤرخ أحمد الظفيري في حديثه عن غزلان العرب حيث قال: (الغزلان العربية لا تسير في الصحراء فرادى وإنما تسير على شكل أسراب (قطعان) قد يصل تعداد القطيع أو السرب إلى أكثر أو اقل من مائة ظبي وظبية. وقطيع الغزلان يسميه عرب الجزيرة الحاليين بجميلة الغزلان أو بجميلة الظباء أو يكتفون باسم جميلة أو الجميلة وكلمة جميلة هي كلمة عربية فصيحة تعني الجماعة وجمعها جمايل وكل جميلة تقودها غزالة «مزيونة» وهذه الغزالة القائدة لقطيع الظباء «إناثا وذكورا» يسميها عرب الجزيرة «بالعنود» والعنود بالعربية الفصحى هي المتقدمة في السير من الدواب ومن الغزلان، وهذه الظبية (العنود) التي تقود سرب قطيع الظباء تتميز بمواصفات خاصة، فهي قوية الجسم رشيقة الحركة ترعى على مرتفع من الأرض لتراقب المكان، شديدة الملاحظة ومنتبهه وحذرة على الدوام وكثيرة التلفت في كل الاتجاهات فحالما تشاهد إنسانا أو حيوانا مفترسا فإنها تضرب بقدميها الأرض وتصدر صوتا خاصا يعرفه القطيع (الجميلة) ثم تركض مسرعة أمام القطيع ويركض خلفها غزلان القطيع ذكورا وإناثا على شكل خط متصل ونسق متتابع غزال وراء غزال، وإذا قتلت القائدة العنود تحل محلها في قيادة القطيع ولية عهدها (عنود ثانية) وهي ظبية ثانية معينة مسبقا وجاهزة لتسلم القيادة في حالة اصطياد أو إصابة أو موت القائدة العنود الأصيلة، وليكن معلوما أن جميلة سرب الظباء لا تقاد إلا من قبل أنثى (ظبية يطلق عليها اسم العنود)، وفي بادية الحماد السوري يسمونها نجود، واسم العنود من الأسماء المفضلة والشائعة الاستعمال عند نساء شبه الجزيرة العربية بادية وحاضرة.
ثلاثة أنواع
وتابع الظفيري: وتنقسم ظباء جزيرة العرب إلى ثلاثة أنواع هي الريم والعفري والأدمي، وكانت تتجول في بوادي جزيرة العرب على شكل جمايل (أسراب) أي قطعان، أما الريم فهو عند عرب الجزيرة الظبي الذي بطنه وخاصرتاه وساقاه الخلفيتان ووجهه كلها ذات لون ابيض ماعدا ظهره بني فاتح مجازا نقول ظهره احمر، فظبي الريم يبدو للناظر له من بعيد ابيض اللون واسم ريم يطلق على الغزال الذكر وعلى الغزالة الأنثى واسم «ريمية» يطلق على الأنثى فقط وهذان الاسمان شائعا الاستعمال عند نساء جزيرة العرب، والريم في القواميس العربية هو الظبي الخالص البياض.
والعفري هو الغزال الذي يكون لون جسمه «بني فاتح» مجازا نقول لونه احمر ماعدا اسفل بطنه لونه ابيض، والغزال العفري اصغر أنواع الغزلان في جزيرة العرب، ويسمى الغزال الذكر باسم «عفري» و «أعفر» وتسمى الغزالة الأنثى باسم عفراء أو عفرية، والأسماء عفري وأعفر وعفر شائعة الاستعمال عند الرجال أما الاسمان عفراء وعفرية فهما شائعا الاستعمال عند النساء في جزيرة العرب ويتميز الغزال العفري عن بقية الغزلان بأنه يمتلك حاسة شم حساسة وقوية جدا، فهو ينفر ويهرب من أي مكان يشم فيه أي رائحة كريهة مهما كانت هذه الرائحة قليلة وبسيطة ولا تكاد تذكر لذلك يضربون المثل بالغزال العفري للإنسان فيقولون فلان او فلانه خشم عفري او عفرية أي ان خشمه (انفه) حساس لاي رائحة كريهة.
أما النوع الثالث من غزلان العرب فهو الادمي ولونه بني غامق ماعدا قليل من البياض يمتد على البطن ويصل قليل منه إلى أسفل الجانبين وهذا الغزال اكبر من العفري واصغر من الريم ويتميز بطول العنق والقوائم والادمي في القواميس والمعاجم هو الظبي الذي اشتدت سمرته ويعيش هذا الغزال في الأراضي الحرار (جمع حرة) وهي الأرض المملوءة بالحجارة السوداء الكبيرة ويغلب على الحيوانات التي تعيش وسطها مثل الأرنب والظبي والضب وغيرهم اللون الأسمر المائل إلى السواد فالمخلوقات بنات البيئة فسبحان الخالق العظيم.
ويتوقف المؤرخ الظفيري ليتنهد حسرة على انقراض الغزال من شبه جزيرة العرب بسبب الصيد الجائر بواسطة البنادق والسيارات، ومابقي من غزالنا العربي إلا الذكريات الجميلة المنعشة، ثم يعود المؤرخ الظفيري ليتحدث عن ارتباط الغزال بمفهوم الجمال عند العرب حيث قال: يشبه العرب على طول تاريخهم الطويل جمال جيد (عنق) الفتاة الحسناء وجمال عينيها ورشاقة جسمها وجمال حركاتها ولفتاتها بجمال جيد الظبي وبجمال عينيه وبرشاقة جسمه وجمال حركاته، فهذا مجنون ليلى قيس بن الملوح العامري يمر به ظبي شارد فيذكره بحبيبته ليلى التي يشبه جمالها جمال هذا الظبي الشارد فكأنه شقيقها فيخاطبه قائلا:
أقول لظبي مر بي وهوشارد أأنت اخو ليلى ... فقال: يقال
تضاريس الأرض بأسماء الظباء
ويقول المؤرخ الظفيري إن عرب البادية الحاليين ورثوا من أجدادهم القدامى من الجاهلية عادة تسمية تضاريس الأرض بالحيوانات وبأجزاء الجسم ومكونات البيئة، وفي الكويت توجد بعض الأمكنة والتضاريس مسماة بأسماء الغزلان ومنها:
* العفري : وهو اسم مرتفع من الأرض يقع في بادية الكويت الشمالية تقريبا غرب منطقة الأطراف.
* خبرة خشم العفري : منخفض متطامن من الأرض يمتليء في موسم الأمطار ويشكل خبراء أو خبرة كبيرة وسميت بهذا الاسم خبرة لأنها انخبرت بالأرض أي تطامنت، وتقع خبرة خشم العفري غرب منطقة الأطراف في بادية محافظة الجهراء.
* حسو الظبي: مجموعة آبار حسيان قليلة العمق، واهم هذه الحسيان حسو الظبي فهو قراح حلو وكثير المياه ويقع شمال فيضة أم العيش.
غزلان البيوت تسر الناظرين
وانهى المؤرخ الظفيري حديثة بالاشارة الى موسم تزاوج الغزلان والذي يتم في ازاخر فصل الصيف وفي بداية فصل الخريف ويسمى عرب الجزيرة فصل الخريف (بالصفري) لان اوراق الاشجار تصفر فيه وتلد الغزالة في اواخر فصل الشتاء واذا كانت السنة ذات امطار كثيرة فان الخير يعم الصحراء فتكثر المراعي الخضراء في كل مكان. وعندئذ تعيش الغزلان في بحبوحة من العيش الرغيد وبتوفير مثل هذه الظروف فان الغزالة تلد مرتين في السنة فبعد ولادتها الاولى تتزاوج مع الذكر مرة ثانية وتلد الولادة الثانية في الصيف.في زمان مضى وانقضى كانت المراة البدوية في جزيرة العرب تفرح غاية الفرح عندما تعثر على دمن الغزلان في امكنة رعيها ومراحها (منامها) فهي تجمع هذا الدمن ثم تقوم بتفتيته وتضعه في مهاد طفلها الرضيع ثم تقمط المهاد على الطفل وتشده بحبل القماط وبداخل هذا المهاد فتيت الدمن الملاصق لجسم الطفل فيكسبه الصحة والرائحة الجميلة المعطرة، فتفتيت دمن الغزال ايام زمان يتفوق على ارقى واحسن انواع المساحيق في وقتنا الحالي.ويتابع المؤرخ الظفيري: الغزلان من الحيوانات الاليفة التي تربى وتدجن بسهولة ولا ننسى ذلك المنظر المألوف الذي يسر الناظرين – ايام زمان – وهو منظر عدد من الغزلان الاهلية المستأنسة التي تسرح الى البر ضمن قطيع جوالة الغنم والماعز التي تخرج مع الشاوي من المدينة وتعود في المغرب، وهذه الغزلان تعود لبعض الاسر الميسورة التي جلبتها من البادية ودجنتها ليستأنسوا بها هم واولادهم وليلعب معها الصغار داخل الحوش (فناء البيت)، دمن الظبي مسحوق معطر بودرة لجسم الطفل.
المصدر : مجلة بيئتنا - الهيئة العامة للبيئة - العدد 99