بيئتنا بيئتنا البوابة البيئية الرسمية لدولة الكويت

العمارة الخليجية

العمارة الخليجية

البادكير .. أبراج الهواء في العمارة الخليجية


حسني عبد الحافظ

لقد أقر معماريو ما بعد الحداثة Post Modernism بأن العمارة التقليدية في منطقة الخليج العربي لم تكن يوماً بالعمارة الناسخة الجامدة التي تتطفل على فكر غيرها، بل هي عمارة ابتكارية إبداعية تسعى إلى تحقيق الخصوصية، بما يتوافق مع عادات وتقاليد وقيم سكان المنطقة، وتحقق التوائم مع متطلبات الظروف البيئية والمكانية، وكان المعماري العربي قد أدخل في تصميماته للعمائر الخليجية عدداً من النظم الهندسية الخاصة بالتبريد، والتي تقوم مقام مكيفات الهواء الحديثة، من ذلك الأفنية الداخلية، التي قال عنها وارن جونسون: "إنها مثل أي مبرد جيد التصميم، والرواشين التي قال عنها ديدييه: "إنها تعد ظاهرة نادرة، حيث تمارس الأسرة حياتها بالكامل داخل البيت.. وتتيح للمرء بأن يشاهد ما يدور في الخارج، كما تسمح للنساء بالاستمتاع بالهواء العليل، دون أن يراهن أحد".. وكذا الكتلة الحرارية Thermal Mass التي قال عنها أحد معماريو ما بعد الحداثة: "إن هذه الجردان والأسقف، تساعد على تبريد داخل المبنى، فلا يحس المقيمون فيه بالحرارة".. وما يعرف بـ "الحل المتضام" Compact، في تنظيم المباني وتوزيع الكتل السكنية، ومن ذلك أيضاً، برج الهواء، أو البادكير.. الذي تمتد وظائفه إلى أبعد من كونه مكيفاً للهواء، وهو موضوع حديثنا في هذه الدراسة، فما هو الأصل التاريخي لبرج الهواء..؟ وماذا عن أهميته في العمارة الخليجية؟

الأصــل التاريخــي

تشير المصادر التاريخية أن العرب إبان العصر العباسي الأول ابتكروا نظاماً هندسياً معمارياً فريداً، شاعر استخدامه في الكثير من الدور والقصور، بالمدن والحواضر في المعمورة العربية الإسلامية.. أطلقوا عليه اسم برج الهواء، أو "ملقف الهواء"، أو "البادكير" وهي كلمة مأخوذة من لفظين فارسيتين، الأولى (باد) بمعنى: الهواء، والثانية (كير) بمعنى: الأخذ والجلب.

وقد ذكر صاحب "شفاء العليل" فقال عنه: "البادكير، هو المنفذ الذي يجيء منه الريح"، وأورده دوزي في "تكملة المعاجم" فقال: "الباديكر، اتخذه العرب للتهوية، وهو يشبه أنبوبة الموقد أو المدفأة".

وكان مدير دار الكتب المصرية، قد أرشدنا إلى مخطوطة على درجة كبيرة من الأهمية، للتاريخ لهذا الابتكار العربي، عنوانها "تحفة الأحباب في نصب البادكير والمحراب"، لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن رجب بن طيغا المجدي، الشهير بابن المجدي، وجدنا فيها الشيء الكثير عن هذا الابتكار، وكيف تطورت وتباينت أنواعه خلال العصور الإسلامية المتعاقبة، وذكر فيه عدة طرق لكيفية عمل أبراج الهواء، وفق أسس معمارية تتعلق بطبيعة البيئة التي تشيد بها وأسس فلكية تتعلق بمطالع هبوب الريح.

الأبراج في الأبنية التقليدية

وتعد أبراج الهواء من الملامح البارزة في الأبنية التقليدية الخليجية، خاصة الساحلية منها، ولا تزال قائمة إلى الآن في العديد من المدن، كأحد الرموز البارزة التي تلعب دوراً في تشكيل الفضاء البصري.

ويتفاوت عدد الأبراج من مدينة إلى أخرى، بل من بناية إلى أخرى، فبينما نرى في بعض المدن الإماراتية (حي البستكية في دبي، وحي الشويهين في الشارقة)، يصل عدد الأبراج في البناية الواحدة إلى اثنين أو ثلاثة، وربما تصل إلى أربعة، يقل العدد في بنايات مدن خليجية أخرى، كما هو الحال في المدن البحرانية (المنامة، والمحرق)، والقطرية (الدوحة)، وكذا في مدينة الكويت، التي تبرز أبراج الهواء في الكثير من أبنيتها التقليدية.

وهذا التفاوت، في وجود أبراج الهواء بين مدينة وأخرى، تفرضه الحالة المناخية، ومطالع هبوب الرياح، كونها مكيف الهواء التقليدي.. وتختلف أحجامها بحسب الغرف المتصلة بها، وهذا بدوره، يؤدي إلى اختلاف تقسيم فتحات الهواء التي تبدأ من فتحة واحدة، وتصل إلى ثماني فتحات، حسب حجم برج الهواء.

وهناك ثلاثة تكوينات، أو بالأحرى مساقط رئيسية، تتخذها أبراج الهواء، هي "المسقط الرابع" الذي يتساوى فيه عدد الفتحات في كل الجهات، والمسقط المستطيل، الذي يزيد فيه عدد الفتحات من جهة معينة عن الجهات الأخرى، وغالباً ما تكون باتجاه الرياح الرئيسية، أو نسيم البحر. أما التكوين الثالث، والنادر، فهو ذو مسقط دائري، بحيث يظهر برج الهواء بشكل اسطواني مفرغ، يشبه في تكوينه مئذنة المسجد، ويوجد هذا التكوين في الشارقة بالقرب من سوق "العرصة".

وبرج الهواء، في البناء التقليدي الخليجي، يتألف من كتلة رأسية مجوفة من الداخل، تستخدم في بنائها الأحجار المحلية ذات الكتلة الحرارية Thermal Mass، ويترك في التجويف قنوات هوائية، تتجه إلى أعلى لسحب الهواء البارد.. ولدعم وتقوية الحوائط، يشيد في فضاء التجويف، هيكل إنشائي، يأخذ شكل حروف (X).

وبعد الانتهاء من بناء جدران البرج، والتأكد من سلامتها ومتنانتها، يوضع السقف، الذي يزيد من تماسك الحوائط، فضلاً عن منع نزول المطر بشكل مباشر إلى داخل البناية.. ويرتفع السقف عن الأرض عادة خمسة عشر متراً، إذا كان المنزل مؤلفاً من طابقين، وإذا كان مؤلفاً من طابق واحد. فإنه يرتفع إلى ثمانية أمتار، وقاعدته ترتفع عن أرضية الغرفة مترين كحد أقصى، ولا تزيد أطوال أضلاعه على 7× 7 أقدام.

وفي عملية التشطيب النهائية، يستخدم الجبس أو الكلس، ومن حيث الثراء الزخرفي، فإن هناك تبايناً واضحاً بين أعلى البرج وقاعدته، فالأجزاء العليا المرئية من قبل المارة، وجدت لها عناية خاصة، لتعكس المكان الاجتماعية لصاحب المسكن، بينما تفتقر الأجزاء السفلى المتوارية خلف كتلة المبنى إلى الثراء الزخرفي. مما يشير إلى الوعي الكامل بالأهمية البصرية التي يؤديها برج الهواء في العمارة التقليدية الخليجية.

وعلى أي حال لا تكتفي القيمة البصرية لبرج الهواء، للتعريف بالمسكن خارجياً، إذ أن تلك القيمة تتجاوز الخارج إلى الداخل، فالبرج غالباً يميز الغرف المهمة عن غيرها داخل المسكن. كما أنه يحقق توازناً بصرياً لكتل المبنى، خصوصاً إذا كان برج الهواء متصلاً بغرفة في الدور الأرضي؛ لأنه في هذه الحالة يحقق تناغماً بصرياً بين كتلته ذات التكوين الرأسي وغرف الدور العلوي..".

وحـدة تكييـف مركزيـة

والقنوات الهوائية، في برج الهواء، هي بمثابة وحدة تكييف مركزية، تغذي البناية بالهواء العليل، فهي قادرة على سحب تيارات الهواء البارد، ودفعه إلى أسفل عبر التجويف، ومن ثم توزيعه في الأروقة والحجرات، وعن آلية التكييف في أبراج الهواء في العمارة التقليدية الخليجية، يقول وارن جونسون: "إن أبراج الهواء نموذج يبين قدرة المعماري على التكيف مع الواقع، وعلى توظيف عناصر المناخ في خدمة العمارة، فإذا كانت الرياح اللطيفة النسائم تهب بصورة متكررة في اتجاه واحد مثلاً، فإن فتحة البرج تكون في الجهة المواجهة لهبوب هذه الرياح، بحيث تسمح بدخول النسيم، وبتوجيهه إلى حجرات المنزل، وإذا كان من المعتاد أن تتغير اتجاهات الرياح، ففي مثل هذه الحالة تفتح الأبراج من أكثر من جهة، لاستقبال الرياح، وتكون هذه الأبراج طويلة نسبياً، وهو الأمر الذي يساعدها على اقتناص النسائم بمعدلات كبيرة، تجعلها وسيلة من وسائل التهوية في الأوقات التي لا تهب فيها الرياح- ويعمل برج الهواء بمثابة مستودع للكتلة الحرارية، فالأحجار التي تدخل في بناء البرج تبرد ليلاً، وفي اليوم التالي، حينما يدفأ الهواء بفعل حرارة الشمس، يظل البرج بارداً، وتكون النتيجة أن الهواء الذي يلامس البرج يتعرض للتبريد، ولما كان الهواء البارد أثقل من الهواء الدافئ، فإن الأول يهبط عبر البرج، لينعش سكان الغرف حين يصل إليهم، ويقوم السكان بوضع ملابسهم بعد غسلها على أعمدة خشبية تبرز من جدران البرج لكي تجف، ولهذا العمل أثر تبريدي آخر، حيث يتسبب في تبريد حرارة الهواء الذي يدخل البرج، ومن الطبيعي أن يفصل البرج عن بقية أنحاء المنزل خلال فصل الشتاء، وإلا فإنه سوف يقوم في هذه الحالة بدور المدخنة، حيث سيسمح للهواء الدافئ أن يتسرب من المنزل عبر البرج.

والحقيقة أن أبراج الهواء لم تكن مقصورة على عمائر المدن الساحلية وكفى، بعيداً عن ساحل الخليج، كما في الرياض وغيرها من المدن الداخلية، إلا أنه كان يوضع أسفل هذه الأبراج أحواض الماء، التي يمر عليها الهوا قبل تسربه إلى الغرف.. فتتضاعف برودته "ومن المعروف علمياً أن غراماً واحداً من الماء يحتاج إلى 80 سعرة حرارية لكي يتم تبخيره، واستخلاص هذا القدر من الحرارة في داخل المنزل، يكون له تأثير تبريدي قوي، ويمكن ملاحظة هذا التأثير في المناطق ذات الهواء الجاف بشكل خاص، حيث يكون معدل التبخير فيها عالياً، ولعل هذا هو السبب في أن أجهزة التبريد، التي تعمل بنظرية التبخير، تكون ذات فاعلية عالية في المناطق الجافة. أما في المناطق ذات المناخات الرطبة، حيث يكون الهواء مشبعاً ببخار الماء، فإن هذه الأجهزة لا تؤدي عملها بشكل مناسب..."

وكان بحثاً موسعاً قد أجرى في جامعة أريزونا بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1985م للوقوف على مدى فائدة أبراج الهواء، وإمكانية الاستفادة منها في توظيف تقنيات التكييف الحديثة، وفي إطار هذه الأبحاث تمت الاستعانة بفكرة عمل برج الهواء.. "مع إضافة مضخة لترطيب الوسادة الموضوعة أفقياً على الجهات الأربع، وبسمك أربع بوصات، وقد وجد الباحثون أن هناك اختلافاً في درجات الحرارة بين الجو الخارجي والداخلي، يصل إلى 10 درجات مئوية على الأقل، في أشد فصول السنة حرارة ورطوبة...".

إن أبراج الهواء تقف شاهداً على عبقرية العمارة التقليدية الخليجية، التي هي "في جوهرها اجتياز فريد للفضاء، يعكس الجوانب الإنسانية، وتجارب الإنسان مع ما حوله من عناصر البيئة باقتدار، على نحو إيجابي نادر...".

ويقر معماريو ما بعد الحداثة، بعد أن فقد الاتجاه الحداثي في العمارة مصداقيته، بأن "الأسس العلمية التي طبقها المعماريون في المدن الصحراوية بالعالم الإسلامي، هي ذاتها نفس الأسس التي يسعى المهندسون المعماريون إلى محاولة تطبيقها في المناطق ذات المناخات الحارة بالعالم، ولكن من خلال الاستغلال الفعال لتقنيات الطاقة الشمسية، وفي الوقت الذي أثبت فيه الواقع الفعلي أن أجهزة الطاقة الشمسية، من مجمعات شمسية، وأجهزة لتخزين الحرارة، ومضخات وأجهزة إحساس ووسائل تحكم إلكتروني معقدة جداً وعالية التكاليف، فإن نظم التبريد المقابلة التي طورها المعماريون في صحاري العالم الإسلامي، أثبتت نجاحها وفاعليتها".

وفي كتابه الموسوم "الطاقات الطبيعية والعمارة التقليدية، يقول المهندس المعياري حسن فتحي: "إن تغير عامل واحد في طريقة البناء التقليدية، لا يضمن استجابة طيبة، ولا حتى معقولة للبيئة.. فوسائل تبريد المساكن كانت غاية في الانسجام، فقبل ظهور الأساليب الميكانيكية الحديثة، لجأ الناس في المناطق الحارة والجافة والدافئة الرطبة.. إلى استنباط وسائل لتبريد مساكنهم باستخدام مصادر الطاقة والظواهر الفيزيائية الطبيعية، وتبين أن هذه الحلول عموماً هي أكثر انسجاماً مع وظائف جسم الإنسان الفسيولوجية، من الوسائل الحديثة التي تعمل بالطاقات الكهربائية، كأجهزة التبريد وتكييف الهواء..".

ويؤكد "كينيث فرامتون"، في أحد مبادئه الخمسة حول تصادم العصرين الطبيعي والصناعي Artifi/Natural، على "أن من سمات المدنية العالمية عزوفها عن الخواص الطبيعية، مثل التهوية الطبيعية، والإضاءة الطبيعية، ولهذا من ال روري ملاحظة إمكان حدوث آثار أيكولوجية سلبية جراء زيادة الاعتماد على أجهزة التكييف الميكانيكية"، وهو في هذا لا يلمح إلى الاستهلاك الزائد في الطاقة والتلوث، الناجمين عن أهزة التكييف الميكانيكية، "ولكن إلى الطريقة التي تعجز بها الأبنية المكيفة والمحكمة الإغلاق عن التجاوب مع المتغيرات اللطيفة الهادئة التي تحدث في الطقس، خارج المبنى...".

ولإعادة الاعتبار لأبراج الهواء، واعترافاً بأهميتها كنظام تبريد فريد، فقد شيدت في العديد من العمائر الحديثة، ليس في مشرقنا العربي الإسلامي وكفى. كما هو الحال في جامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية، وفي مقر الأمانة العامة لدول مجلس التعاون الخليجي، وغيرها من العمائر العربية الإسلامية.. بل وأيضاً في العديد من العمائر الغربية، كما في مبنى جامعة ييل، وكذا في المحيط المعماري الشامل لمحطات الحافلات (الباصات) في ولاية أريزونا الأمريكية.

المصدر : مجلة بيئتنا - الهيئة العامة للبيئة - العدد 29